فورين أفيرز: التاريخ يعيد نفسه.. كورونا يهدد الحكم الديني بإيران

في الوقت الذي يجتاح فيه فيروس "كورونا" المستجد إيران، كان رد فعل الحكومة غامضاً وقاصراً بشكل ملحوظ؛ حيث فضلت الأولويات السياسية والدينية على سياسات الوقاية العملية. عندما بدأ انتشار الفيروس في مقاطعة "ووهان" بالصين، سارعت الدول الأخرى إلى تقييم استعدادها لمكافحة المرض. لكن إيران لم تستعد.

بدلاً من ذلك، استمرت في تصدير أقنعة الوجه الطبية إلى الصين؛ ما جعل إيران تعاني من نقص فيها عندما احتاجت مستشفياتها إلى الأقنعة في فبراير. ورفضت إيران أيضا تقييد سفر القادمين من الصين، أكبر شريك تجاري لها؛ لتجنب أي تأثير ضار على اقتصادها المتصدع بالفعل، والذي عصفت به العقوبات الأمريكية.

وقبل شهر واحد فقط من الإبلاغ عن أول إصابة بـ"كورونا" في البلاد، أسقط الجيش الإيراني عن طريق الخطأ طائرة ركاب أوكرانية. وتسببت معالجة الأزمة فيما بعد في إحراج كبير لقيادة البلاد؛ نظرا لإنكار الأمر في البداية. وفي مواجهة أزمة في ثقة الجمهور بعد هذا الخطأ، إضافة إلى تفاقم العزلة الاقتصادية والسياسية بموجب العقوبات الأمريكية، لم يكن قادة إيران يميلون إلى طلب المساعدة الدولية، واعتمدوا بدلا من ذلك سياسة تجاه تفشي "كورونا" أعطت الأولوية لبقاء النظام ومكانته على صحة العامة.

ورغم أن الظروف مختلفة إلى حد كبير، إلا أن هذا النمط يشبه بشكل لافت رد فعل الحكومة الإيرانية على نوبات "الكوليرا" الوبائية المتكررة في مطلع القرن العشرين. وكان عجز إيران عن وقف دخول "الكوليرا" المتكرر لأراضيها أضر باقتصادها قبل قرن من الزمن، وأدى إلى تآكل سيادتها، وأثار احتجاجات شعبية أجبرت سلالة "القاجار"، الحاكمة في إيران آنذاك، على إجراء تغييرات كبيرة.

وتسبب تفشي "كورونا" في سلسلة مماثلة من الأحداث؛ حيث تم فرض حظر دولي متزايد على السفر إلى إيران، مع انخفاض آخر في العملة الإيرانية التي تعاني بالفعل، إضافة إلى تزايد عدم الثقة محليا في الحكومة. وعلى نفس المنوال، فإن إصلاحات الصحة العامة التي ساعدت في نهاية المطاف على القضاء على وباء "الكوليرا" في إيران قبل قرن من الزمن، من المحتمل أن تكون المفتاح لاحتواء تفشي "كورونا" اليوم.

نتائج الإنكار

وبدأت إيران في الإبلاغ عن وفيات "كورونا" في مدينة "قم" في 19 فبراير. إذ بدأت تنتشر أخبار وصول مصابين من إيران إلى كندا ولبنان على مدى يومين؛ مما يشير إلى تفشي المرض بشكل أكبر بكثير من استعداد طهران للقبول والاعتراف؛ ما دفع دول الجوار، أفغانستان وأرمينيا وباكستان وتركيا، لإغلاق حدودها مع إيران.

ورغم أن الرئيس "حسن روحاني" اعتبر أن حالة القلق الداخلي المحيطة بالوباء هستيريا لا مبرر لها، إلا أن برلمانيا من مدينة "قم" اتهم الحكومة علنا بالتستر على الأزمة، مدعيا أن 50 من ناخبيه تعرضوا للإصابة بالفيروس.

وتعرضت مصداقية إيران لضربة أشد في وقت سابق من الأسبوع الماضي، عندما اضطر نائب وزير الصحة في البلاد، ورئيس فرقة العمل المعنية بمكافحة الفيروس، إلى الاعتراف بأنه مصاب بالمرض، بعد أن ظهر مريضا في مؤتمر صحفي. وبحلول الخميس، كان 2 من أعضاء البرلمان وواحدة من نواب الرئيس الإيراني مصابين بالعدوى.

وأبلغ أحدث تقرير رسمي صادر عن الحكومة عن 54 حالة وفاة من أصل 978 حالة على مستوى البلاد؛ وهو ما يفوق معدل الوفيات في الصين، ويشير إلى أن تفشي المرض في إيران إما أوسع بكثير من الذي تم الإبلاغ عنه سابقا، أو يقتل بشكل غير عادي.

وكانت استجابة طهران لسياسة تفشي المرض أكثر خطورة من مجرد افتقارها إلى الشفافية. فمنذ اكتشاف وجود المرض في "قم"، رفضت وزارة الصحة إنشاء حجر صحي في المدينة أو حولها، ووصفت هذا الإجراء بأنه إجراء بالي. وفشلت الإدارة في تحديد الأشخاص الذين وصلوا بالفيروس وعزلهم ومعالجتهم بشكل كافٍ. وبالتالي، انتشرت العدوى إلى أجزاء أخرى من البلاد. وطلبت وزارة الصحة إغلاق المعالم الدينية في "قم"، بما في ذلك ضريح "فاطمة المعصومة"، لكن المسؤولين الدينيين رفضوا ذلك. وهاجم متحدث باسم المرشد الأعلى "آية الله علي خامنئي" الطلب، معلنا أن أي محاولة لتقييد الوصول إلى الضريح تعزز مؤامرة شريرة من جانب الولايات المتحدة للترويج بأن المدينة المقدسة غير آمنة. ويتجمع المئات من الحجاج والزوار على مقربة من بعضهم البعض في مواقع "قم" الدينية على أساس يومي؛ ما يوفر فرصة أخرى لانتشار الفيروس.

المأساة الأولى

ورغم أن "كورونا" جديد بالنسبة لإيران، إلا أن استجابة البلاد للوباء مألوفة للغاية. ففي عام 1904، وصلت موجة وبائية من "الكوليرا" إلى إيران في أعقاب عودة الحجاج الشيعة من العراق. وحاولت طهران أولا إيقاف العدوى عن طريق قصر الحج على الأضرحة المقدسة. لكن المرشد الأعلى، آنذاك، قاوم هذه الجهود، واتهم المسؤولين بتعزيز هدف "الكفار" الغربيين لمنع المؤمنين الشيعة من أداء واجباتهم الدينية.

وعلى غرار حكومة "روحاني" الحالية، افتقر رئيس الوزراء الضعيف وحكومته في ذلك الوقت إلى القدرة على معارضة المؤسسة الدينية. وهكذا سمحوا لقوافل الحجاج المصابين بتجاوز الحجر الصحي الحكومي ونشر المرض. ثم كما هو الحال الآن، خافت الحكومة من انتشار الذعر العام. وتم إخفاء تفشي وباء الكوليرا عن سكان البلاد، وحتى عن العاهل الحاكم، حتى أصبح من المستحيل إخفاءه بسبب معدل الوفيات المتزايد.

إن الإبقاء على انتشار الكوليرا سرا وعدم القيام بالكثير لاحتوائه ساعد في تضخيم الصدمة الديموغرافية والاقتصادية التي سببها المرض. وتسبب وباء الكوليرا في زيادة التضخم، الذي أدى بدوره إلى اندلاع احتجاجات واسعة النطاق تدعو إلى إصلاح الحكومة. وكانت النتيجة، في عام 1906، هي الحركة المعروفة باسم "الثورة الدستورية"، التي أنشأت نظاما برلمانيا وأدت إلى فترة قصيرة من الديمقراطية في تاريخ إيران الطويل من الاستبداد.

كما تسبب فشل الحكومة الإيرانية في منع الكوليرا من دخول البلاد، والانهيار الاقتصادي الناجم عن ذلك، في إجبار إيران على التخلي عن سيطرتها على مؤسسات الحجر الصحي الحدودية الجنوبية لروسيا وللإمبراطورية البريطانية؛ مما جعل تلك الدول أسيادا على حركة المرور عبر المناطق البرية والبحرية الإيرانية.

وفي العقد الثاني من القرن العشرين، أنشأت إيران نظاما علمانيا للحكم، وإدارة للصحة العامة بدأت في السيطرة على تفشي وباء الكوليرا. ومن الأمور الأساسية لإنهاء تكرار الأوبئة وشدتها تبني الفهم الميكروبيولوجي للأمراض المعدية، وبالتالي تراجع العوائق الدينية والسياسية أمام النهج العلمي التجريبي لمكافحة الأمراض والوقاية منها وعلاجها.

ويبدو أن القيادة الحالية في إيران نسيت هذه الدروس التي تعلمتها إيران بشق الأنفس، بما في ذلك النهج العلماني للطب الذي غير مشهد الأمراض المعدية في البلاد في القرن الماضي. وما لم يتبن قادة إيران بسرعة نهجا أكثر شفافية وقوة لإيقاف العدوى، فمن المرجح أن يعيد التاريخ نفسه؛ لأن توسع تفشي "كورونا" من شأنه أن يؤدي إلى تآكل شرعية الحكم الديني بشكل لا رجعة فيه.