حين هزم الرئيس التونسي الأحزاب وأنهى فوضاها

قيس سعيد هزم حركة النهضة بقرار دستوري هادئ في الوقت الذي صار فيه أصحاب البطولات الوهمية يتنهدون أسفا على الديمقراطية التي سمحت لهذه الحركة بتهميشهم وتحطيم آمالهم.

منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي اتخذت السياسة في تونس طابعا حزبيا ضيقا، حيث صارت الاختلافات السياسية تجسيدا لنزاعات حزبية تدور حول المصالح التي كلما مضى الوقت يتضح بعدها عن المصلحة الوطنية بل وتعارضها معها وهو ما أحدث فجوة كبيرة ما بين مطالب الشارع وحاجات الشعب وبين ما يتردد من نقاشات تحت قبة مجلس النواب حيث تجتمع الطبقة السياسية ليتبادل أفرادها الاتهامات وفي أحيان أخرى اللكمات.

كان واضحا أن الشعب الذي عانى عشر سنوات من ظروف اقتصادية صعبة بات خارج المدى الذي ينظر إليه السياسيون الذين انتخبهم من أجل أن يروا مشكلاته ويضعون لها حلولا من خلال خبرتهم ونفوذهم وما يملكون من سلطة.

كان هناك كثير من الغبار يخفي معارك طاحنة، ما من واحدة منها قامت من أجل الدفاع عن مصالح الشعب وبالأخص طبقاته الفقيرة. كل تلك المعارك جرت من أجل أن ينفرد طرف بالقرار السياسي وينزع عن الآخرين استحقاقاتهم التي هي الأخرى لا تعكس المبادئ التي تمثل الثورة حسب التعبير الشعبي التونسي.

لذلك اكتسبت القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد نهاية يوليو الماضي والقاضية بوضع حد للفوضى السياسية من خلال إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان طابعا ثوريا جاء بمثابة استجابة للحراك الشعبي الذي يعود إلى أسباب اقتصادية لا تتصل بشكل مباشر بذلك التنوع الحزبي الذي اعتبره البعض نقطة بدء في حياة سياسية تقوم على أسس ديمقراطية ولم يكن يخطر ببال أحد أن يتحول ذلك التنوع إلى سبب في حروب القبائل الحزبية التي وجدت في السلطة فرصة للفساد المالي والإداري.

كان الرئيس سعيد شجاعا في التقاط الفقرات الدستورية التي تتيح لرئيس قيل إنه من غير صلاحيات فرصة الدفاع عن حقوق الشعب التي استلبها الحزبيون بذريعة الديمقراطية.

وليس من المستبعد أن سعيد ما كان في إمكانه أن يقوم بضربته الإنقاذية لو أنه كان منهمكا في أداء مهماته من منظور سياسي. ولطالما تهكم البعض على رئيس دخل إلى قصر قرطاج ولم يسبق له أن مارس اللعبة السياسية.

غير أن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد أثبتت أن تونس كانت في أمس الحاجة إلى رئيس لم تلوثه السياسة بأكاذيبها وحيلها وفسادها. لم يكن متوقعا أن يكون سعيد من النوع المقاتل، غير أنه فعل ما لم يفعله السياسيون الذين يملأون الدنيا صخبا في الحديث عن بطولاتهم.

لقد هزم حركة النهضة بقرار دستوري هادئ في الوقت الذي صار فيه أصحاب البطولات الوهمية يتنهدون أسفا على الديمقراطية التي سمحت لهذه الحركة بتهميشهم وتحطيم آمالهم ودفعهم إلى الموقع الذي تحولوا فيه إلى مجرد باعة كلام.

فعل سعيد ما لا يقوى اليسار التونسي على القيام به.

أما حين كلف الرئيس التونسي السيدة نجلاء بودن رمضان بتشكيل الحكومة الجديدة فإنه أجهض محاولات اليسار قبل حركة النهضة للتشكيك في أنه سيكون قادرا على إدارة مرحلة ما بعد عزل السياسيين عن السلطة. لقد اعتقدوا أن رئيسا لا يملك خبرة سياسية سيسلمه احتضان الشعب إلى دروب متاهة سيظل سجينها إلى أن تستعيد حركة النهضة أنفاسها بعد أن تتمكن الدول التي ترعاها من إنقاذها من الانهيار.

لقد حاول الكثيرون أن يركزوا على عامل الوقت كما لو أن تونس التي تحملت فوضى حركة النهضة عشر سنوات ليس في إمكانها أن تصبر على رئيس نزيه السريرة وقوي العزيمة وصادق في وطنيته بضعة أشهر.

وجاء اختيار السيدة بودن ليؤكد أن الرئيس لا يقدم السياسة على الاقتصاد وأنه لا يسعى لإنقاذ تونس وشعبها عن طريق الشعارات السياسية بل عن طريق العمل على معالجة الملف الاقتصادي الذي هو جوهر الثورة.

ولأن الرئيس لم يكن في يوم من حياته سياسيا فقد أدرك بحسه الإنساني أن كرامة التونسي ليست مرتبطة بصناديق الاقتراع التي استولى عليها المتمكنون بل باطمئنانه إلى مصدر رزقه.

لا تحتاج تونس إلى المزيد من الهذر في السياسة بل تحتاج إلى أن يبنى اقتصادها على أسس سليمة بعيدا عن الفساد وهي دولة ليست فقيرة بثرواتها الأرضية وثروتها البشرية في مجالات الفلاحة والسياحة والصناعات التقليدية.

تلك خارطة وضعها الرئيس سعيد أمام رئيسة حكومته التي تملك خبرة في التعامل مع البنك الدولي وهو ما سيساعدها في التعامل مع المشكلات الاقتصادية التي سيكتشف التونسيون أن معظمها كان من صنع حركة النهضة.

فالنهضة ترى أن تجويع الناس وإشاعة الفوضى ونشر البطالة، كلها عناصر تدفع بالشباب إلى الارتماء بين أحضانها لأنها تنشر الدعوة إلى حياة أفضل في مكان أكثر طهرا من الدنيا.

أما الآن فقد صار الخيار الاقتصادي هو الحل. سيكتشف الشباب أن في إمكانهم أن يحولوا تونس إلى جنة أرضية بشرط أن يصموا آذانهم عن رطانة السياسيين بمختلف توجهاتهم.

*العرب