انتفاضة ديسمبر.. امتدادات وارتدادات المعركة الوطنية
تُقاس قيمة المشاريع بمستوى الأهداف والرؤى التي تحملها، وتُقدر أهمية الانتفاضات والثورات بحجم التركة والإرث الذي تخلفهما على مختلف الأصعدة الوطنية، وليس أكبر من مشروعٍ يسعى إلى تحريرِ وطن، ولا أسمى من هدفٍ يتمثل في استعادة دولة فشلت كل محاولات الحفاظ على مؤسساتها بالطرق السياسية والسلمية.
الجذور والانطلاقة
عندما زادت أنشطة الجماعة الحوثية لتعميق فكرها وسرطانها في المؤسسات الوطنية، وتحويلها إلى أداة ميليشاوية لا تؤمن بالدولة ولا بالناس، كان التحول إلى الانتفاضة العسكرية هو الخيار الأخير لاستئصال ذلك السرطان وصولاً إلى يمن معافى من التشظي والإمامة والعبث الإيراني الحوثي..
على هذا الأساس، انطلقت انتفاضة الثاني من ديسمبر من العام 2017م فمثلت عنوانًا مكتملًا وواضحًا لمشروع وطني، كان يختمر منذ سنوات، وامتدادًا لقناعة تتجذّر في كل من انخرط فيها وحمل رايتها، وبالرغم من عدم اكتمالها عسكريًا في حينه، إلا أنها دشّنت مرحلة جديدة، وواصلت كشف الحقيقة الحوثية وإعادة تشكيل الوعي ودفع مسارات التحرر نحو النجاح، وهو ما جعل الثاني من ديسمبر امتدادًا مفتوحًا، وإرثًا مستمرًا، كون استعادة الأوطان لا تبدأ بالانتصار الفوري، بل تبدأ بقرار المقاومة، وهذا ما فعله رجال ذلك اليوم، والسؤال الذي يُطرح بقوة ماذا لو كانت نجحت انتفاضة ديسمبر في حينه؟!
التفاف جماهيري
وتزامناً مع الذكرى الثامنة لهذه الانتفاضة نستذكر ذلك الترحيب الشعبي والالتفاف الجماهيري داخل الوطن وخارجه، من كل القوى الوطنية والسياسية حينها -حتى المعارضة- حول هذه الانتفاضة التي فجر شرارتها الزعيم علي عبدالله صالح -يرحمه الله-، الأمر الذي يؤكد أهميتها في الوجدان الجمعي لليمنيين الذين نظروا إليها كلحظة خلاص طالما تاقوا إليها وسعوا إلى تحقيقها، والعجيب تحوُّل تلك الخطابات المبارِكة من بعض القوى السياسية إلى شماتة فيما بعد، يكرر البعض ترديدها حتى اليوم، متجاهلين أن المشاريع الوطنية الكبرى إذا تلكأت خطواتها الأولى فإن معيار التقييم ينتقل إلى مستوى الإرادة لدى حَمَلتها وإلى قدرتهم على خوض التحديات ومواجهة كل التعقيدات، خاصة وأن قائدها قدّم روحه وعمّدها بدمه وخلّدها بوصايا لا يُنكر وطنيتها إلا مختلّ أو مختلف الفطرة، ولا أدري إن كان ذلك غباءً من الشامتين أو انغماساً في مستنقع المماحكات، أو عدم إدراك لمستوى ما أفرزته هذه الانتفاضة من: كشفٍ للأقنعة الحوثية وتعرية مشاريعها الإمامية والسلالية على أرض الواقع، ومن دعمٍ لتحولات المعركة الوطنية على الجانب الآخر في استعادة الدولة وتحرير البلاد والعباد من ذلك الكهنوت.
كشف الأقنعة
في لحظة مفصلية جاءت انتفاضة الثاني من ديسمبر، لتُسقط القناع السلالي -العقائدي- للحوثيين وتعرّي سوءاتهم الفكرية، وتُبدي الوجه الحقيقي لمشروعهم بمختلف تفاصيله الطائفية والإمامية والمستوردة، بل وتهاوى الكثير من الغموض الذي أحاط بالمشهد، وتم تدعيم الأساس لوعيٍ وطني جديد أدرك أهمية المعركة وضرورة انتصارها، بعد أن وصل الوضع إلى مستوى غير مسبوق من الانهيار، وأصبح اليمنيون أرقاماً في كشوف المنظمات، واخترقت جماعة الحوثي كل بنية المؤسسات، وحوّلتها إلى أدوات لمشروعٍ سلالي مغلق، مُستندة إلى دعمٍ شيعي -لا شعبي- إقليمي مكثّف كشفته الأحداث اللاحقة، وزادته تأكيداً خطابات مسؤولي حزب الله، وآخرها ما صرح به نعيم قاسم بأن رئيس أركان الحزب الذي اغتالته إسرائيل مؤخراً "هيثم طبطبائي"، عمل في اليمن لتسع سنوات من أجل تدريب الحوثيين وتكريس الامتداد الإيراني في البلاد.
لم يكن ليجرؤ الحوثيون -رغم استفزازاتهم المتكررة للزعيم وقيادات المؤتمر الشعبي العام- قبل ديسمبر، على تغيير المناهج ليُدرسوا علناً خلفياتهم الفكرية والطائفية والمذهبية للأجيال، أو يكرسوا مشروع الولاية بوجهها المشؤوم كما صارت عليه فيما بعد، وأتذكر أنني سألت أحدهم ذات مرة بعد دخولهم صنعاء وقلت له بما أنكم تدعون إلى الولاية كجزء من عقيدتكم لماذا تتخفون وتخافون من إظهار ذلك وتطبيقه أمام الناس؟! فأشار إلى أنهم لا يستطيعون ذلك في ظل هذه الظروف، ويقصد بالظروف وجود الزعيم علي عبدالله صالح على رأس المؤتمر الشعبي العام في صنعاء.
ارتدادات الانتفاضة
وبعد إفشال المرحلة الأولى من ديسمبر، تحولت صنعاء وباقي مناطق سيطرة الانقلاب الحوثي إلى سجن مفتوح يستجر أساليب الإمامة في تجويع الناس وترويعهم، وتطبيع الأوضاع على سياسة القمع والتنكيل والاختطاف، ورفض الاختلاف، وهكذا عرف المخدوعون حقيقة ذلك الذي طالما قدم نفسه للناس بمثابة الحمل الوديع المظلوم وتحجج بمصالح المواطنين وحقوقهم، حين نشر عصابته لتهتك الجسد اليمني وتفتك به في مختلف جوانب حياته.
إلا أن ارتدادات الانتفاضة استمرت على مختلف المستويات الاجتماعية والفكرية والسياسية والعسكرية، وظل القلق يسير كظلٍ يلاحق تلك الميليشيا ويسيطر عليها حتى الآن، تؤكده حملات الاختطاف المستمرة، ويزيده تأكيداً مستوى الاستنفار مع كل فعالية وطنية، ومع كل مناسبة خاصة بالمؤتمر الشعبي العام في صنعاء، ما جعلهم يلجأون بين الفينة والأخرى إلى محاصرة أنشطته وقياداته أو اختطافهم أو التضييق عليهم، ولا يزال أمين عام المؤتمر الأستاذ غازي الأحول، مختطفاً لديهم منذ 20 أغسطس 2025م حتى اللحظة، في سفورٍ دامغ لعدم قبولهم بأحد وخوفهم من الجميع.
ولأن استعادة الأوطان تبدأ بمعرفة العدو على حقيقته، فقد نزعت انتفاضة ديسمبر كل الغطاءات التي كان يتستر بها الانقلاب الحوثي أمام الناس، الأمر الذي يمنح هذا الحدث قيمته الممتدة في الوعي اليمني حتى اليوم..
تحولات المعركة
وعلى نحو خالٍ من الغموض، أفرز الحدث مجموعة متسلسلة من التغيرات في المعركة الوطنية، وأرسى أسس تحولات شاملة في مختلف المجالات، حيث ألقى المؤتمر الشعبي العام وأنصار ديسمبر وحَمَلة مبادئها بثقلهم الداعم على خط المواجهة مع الحوثيين، وتغيرت ميادين المعركة وموازينها واتسعت جبهاتها السياسية والعسكرية والفكرية والإعلامية، والقارئ للمشهد السياسي والعسكري والإعلامي بعد 2017 سيجد الميدان شاهداً على مختلف تلك الارتدادات وتأثيرها على خارطة المواجهة في اليمن.
فبعد فترة وجيزة من استشهاد الزعيم صالح بدأ ضباط وعناصر من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والعديد من أطر المؤتمر الشعبي العام بالخروج سرًا من صنعاء، لينتقلوا إلى محافظات مختلفة، ويعيدوا تنظيم صفوفهم ضمن القوات المشتركة في الساحل الغربي بقيادة العميد طارق صالح التي خلقت مساراً جديداً للمواجهة، حيث انطلقت من المخا لتتمدّد نحو الخوخة وحيس والدريهمي وصولًا إلى تخوم مدينة الحديدة.
الأمر نفسه جرى في محافظة شبوة، إذ تم تفعيل جبهة بيحان–عسيلان بقوة مطلع 2018، شاركت فيها مجموعات وقيادات مؤتمرية في عمليات عسكرية انتهت بطرد الحوثيين من آخر معاقلهم في المحافظة. وفي صعدة، معقل الحوثيين، تم تدعيم المعركة بفتح نطاقات جديدة للمواجهة في كتاف والبقع وباقم ورازح ومران وآل ثابت، وزاد تأثيرها بفعل وصول مقاتلين وضباط قادمين من مناطق سيطرة الانقلاب، وهو الحال الذي شهدته جبهات أخرى بفعل ذلك الزخم الذي كان يجب استغلاله وعدم شرخ الصف الوطني بفعل المماحكات الحزبية والتخوفات داخل مكونات الشرعية من هذا التحول المهم.
على الصعيد الإعلامي، أعقب ديسمبر 2017 نشوء جبهة إعلامية موازية، أبرزها إعلام "المقاومة الوطنية" وقناة "اليمن اليوم" بنسختها الجديدة خارج صنعاء، إضافة إلى توسع منصات المؤتمر ومواد إعلام التحالف في تغطية جبهات الساحل وصعدة وشبوة ومأرب، وظهور العديد من المنصات الأخرى التي حملت على عاتقها تعزيز معركة الوعي الفكرية وتعرية ممارسات الحوثيين، هذه الجبهة لعبت دورًا مهمًا في إعادة تشكيل الرأي العام وتوثيق المواجهات بشكل لم يكن ممكناً داخل صنعاء بعد سيطرة الحوثيين على الإعلام الرسمي والحزبي.
وختاماً.. يمكننا القول إن انتفاضة ديسمبر لم تكن حدثًا عابرًا، بل لحظة إعادة توزيع ميداني عسكري وإعلامي وفكري شاملة، أسهمت في تغيير خرائط المواجهة وخلقت جبهات جديدة لا تزال فاعلة حتى اليوم.