قالها مبكراً.. واليمن يدفع الثمن اليوم
في مسار التاريخ اليمني الحديث، تبرز لحظات لا تُقاس بحدّتها الآنية، بقدر ما تُقاس بقدرتها على كشف المعنى بعد حين. ومن بين تلك اللحظات المفصلية، يقف اسم الرئيس الشهيد علي عبدالله صالح بوصفه عنواناً لمرحلة طويلة من التحذير المبكر، ومحاولة جادة لدرء العواصف قبل أن تستحيل إعصاراً يلتهم الدولة والمجتمع معاً.
لقد كان صالح، في خطابه وممارساته السياسية، أكثر حكمة وخبرة ودراية مما يحلو لخصومه الاعتراف به. والإنصاف التاريخي يقتضي الإقرار بأن ما حذّر منه مراراً لم يكن نبوءات غيبية، بل قراءة سياسية عميقة لطبيعة مشروع كان يتشكّل في الظل، ويستثمر في الانقسام، ويستند إلى منطق السلاح والغلبة لا إلى منطق الدولة والشراكة.
وبحكم الخبرة والاحتكاك الطويل بمراكز القوى الداخلية والخارجية، أدرك أن العبث ببنية الدولة سيقود حتماً إلى تفكيكها، وأن التساهل مع المشاريع الصغيرة، والسلالية، والمليشياوية لن ينتج إلا خراباً شاملاً.
اليوم، ومع كل يوم يمضي، تتجسّد تحذيرات صالح واقعاً مريراً يعيشه اليمنيون: دولة منزوعة السيادة، مجتمع مثخن بالجراح، اقتصاد منهار، ونسيج اجتماعي يتآكل تحت وطأة العنف والتعبئة والكراهية.
لم تكن تحذيراته ترفاً سياسياً ولا مناورة خطابية، بل صرخة رجل دولة رأى الخطر يقترب، وحاول —بما امتلك من أدوات— أن يوقف اندفاع البلاد نحو الهاوية.
لقد حذّر من تحويل اليمن إلى ساحة صراع دائم، ومن اختطاف القرار الوطني، ومن تديين السياسة وتسليح الهوية، ومن الكلفة الباهظة للحرب على الإنسان قبل الحجر.
وحين قال إن النار التي تُشعل اليوم ستحرق الجميع غداً، لم يكن يبالغ، بل كان يعبّر عن قانون تاريخي لا يرحم من يتجاهله.
وما نراه اليوم من تمزق، ونزوح، وفقر، وانتهاكات، وانسداد في الأفق، ليس سوى ترجمة عملية لتلك التحذيرات التي لم تُؤخذ بالجدية الكافية.
أما السؤال الوجداني الذي يطرحه اليمنيون اليوم — ماذا كان بينه وبين الله حتى تتحقق تحذيراته تباعاً؟ — فليس سؤالاً دينياً بقدر ما هو تعبير عن دهشة شعب يرى الوقائع تلتحق بالكلمات بعد فوات الأوان.
والحقيقة أن ما كان بينه وبين الله هو ما يكون عادة بين رجل دولة والتاريخ: إحساس بالمسؤولية، وخبرة متراكمة، وقراءة دقيقة لمآلات التفريط بالدولة، مهما كانت المبررات.
إن استشهاد الرئيس علي عبدالله صالح لم ينه الجدل حوله، لكنه منح كلماته وزناً مضاعفاً. فالرجل الذي استُهدف لأنه اختار أن يقول «لا» في لحظة فاصلة، ترك خلفه إرثاً من التحذير يجب أن يُقرأ لا بعين الخصومة، ولا بعاطفة التعصب، بل بعين الوطن الجريح الذي يبحث عن خلاص. والاعتراف اليوم بصواب تحذيراته ليس إعادة كتابة للتاريخ، بل محاولة متأخرة لتعلّم درسه الأهم: أن الدول لا تُدار بردود الأفعال، ولا تُحمى بالمجاملات، وأن التساهل مع الخطر في بدايته هو أخطر أشكال التواطؤ.
وفي المحصلة، فإن اليمن الذي تتحقق فيه تحذيرات صالح يوماً بعد آخر، يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى استعادة منطق الدولة، وإعلاء قيمة التحذير المبكر، والإنصات لصوت العقل قبل أن تفرض الكارثة لغتها.
ذلك هو الدرس الوطني الأعمق، وذلك هو المعنى الذي يجعل استحضار تلك التحذيرات فعل وعي، لا مجرد بكاء على الأطلال.