لماذا ترفض مصر التدخل العسكري في ليبيا؟

مع اشتداد المعارك العسكرية في ليبيا بالتزامن مع تواصل مساعي الجيش الوطني الليبي لتطهير العاصمة طرابلس من الميليشيات، أعيد السؤال مجددا عن عدم قيام مصر بتدخل عسكري لحل الأزمة الليبية، خاصة بعد توقيع الجانبين التركي وحكومة فايز السراج لمذكرتي تفاهم وما رافقه من ترويج صور لليبيين بالزي العسكري المصري، خاصة وأن القاهرة لا تخفي تمسكها بدعم الجيوش النظامية الوطنية.
 
في كل مرة تشتد فيها المعارك السياسية والعسكرية في ليبيا يتجه البعض صوب مصر، وتظهر اجتهادات وتخمينات تقول إن القاهرة أرسلت أو عازمة على إرسال قوات للوقوف إلى جانب الجيش الليبي الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، ثم يخفت الحديث بعد فترة وجيزة، دون أن نجد أثرا ملموسا لنزول قوات مصرية على الأراضي الليبية.
 
في هذه المرة بدا الكلام أشد قوة، حيث قامت جهات ليبية بسد الثغرة التي تنفي هذا الوجود، وروجت صورا لليبيين بالزي العسكري المصري المعروف، الأمر الذي لقي صدى لدى من يطربون سلبا أو إيجابا لهذا الحضور.
 
وتم نسج سيناريوهات عن المقبرة الجماعية التي ستقام للميليشيات وروافدها، أو المستنقع الذي سوف يغرق فيه الجيش المصري كواحد من أقوى الجيوش في المنطقة.
 
وتصاعد النقاش إلى حد القول إن مصر وتركيا سوف يلتقيان عسكريا على المسرح الليبي، بعد توقيع مذكرتي تفاهم بحري وأمني بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبي، في 27 نوفمبر الماضي، وظهور تلميحات من أنقرة لا تخلو من تهديدات واستهداف لقوى إقليمية مؤثرة، بينها مصر، وهي الدولة الوحيدة التي تتقاطع سلبيا مع تركيا في مشروعات غاز شرق البحر المتوسط والأزمة الليبية.
 
قفزت التكهنات إلى أعلى، عندما استعرضت البحرية المصرية فجأة عضلاتها وقواتها المسلحة في عرض البحر المتوسط في 11 ديسمبر الجاري، في إشارة قوية فهمها كثيرون على أنها موجهة على الفور إلى أنقرة، حال وصول قواتها إلى ليبيا بموجب تفاهم أردوغان – السراج، غير أن البعض ذهب إلى أنها رسالة ردع لما يمكن أن تواجهه تركيا، إذا فكرت في تهديد مصالح مصر عسكريا بالقرب من الحدود مع ليبيا أو في شرق المتوسط.
 
أخذ الحديث منحى أكثر جدية من ذي قبل هذه المرة. ولم يدرك البعض أن هناك حربا معنوية على أشدها تتجاوز حدود حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وجماعة الإخوان، والميليشيات المسلحة. فهناك قوى من خارج هذه الدوائر، مثل تركيا وقطر، يهمها جر مصر لخوض حرب مباشرة في ليبيا، وهي التي تعمدت وحلفاؤها نشر الصور وتسويقها على نطاق واسع، كنوع من هزة ثقة البعض في تحركات القاهرة السياسية والتحريض عليها أمنيا.
 
دعم الجيوش الوطنية
 
قدمت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تقارير عدة حول الدول التي قدمت أسلحة لأي من الأطراف الرئيسية في المعارك الدائرة وخرقت قرار مجلس الأمن الدولي بشأن حظر تصدير السلاح، ولم تكن من بينها مصر، بينما جاءت الإشارات جلية لتركيا في دعمها للميليشيات.
 
لم ينكر النظام المصري في أي يوم دعمه للجيوش والمؤسسات العسكرية النظامية، ولم يخف موقفه من الإرهاب والعصابات المسلحة والقوى التي تدور في فلكهما، وأدان صراحة هذه التصرفات، وآخرها كلام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام منتدى شباب العالم الأحد الماضي، بقوله “لماذا لا توجد لدى الحكومة الحالية في طرابلس إرادة حرة وحقيقية، لأنها رهينة للميليشيات المسلحة والإرهابية”.
 
تقف مصر بجانب المشير خليفة حفتر، لأنه قائد الجيش الوطني الليبي، وأحد أهم صمامات الأمان للدولة، ويسعى منذ فترة لتوحيد المؤسسة العسكرية، وكان له دور حاسم في دحر المتطرفين في معارك درنة وغيرها، بينما يحاول خصومه التصدي لكل الممارسات الإيجابية التي تطفئ نيران الحرب، ويمنحون المتشددين فرصة جديدة للحياة، بل يعملون على فتح أبواب ليبيا لكل القوى الإرهابية المناصرة لهم، سواء كانت محلية أم خارجية.
 
ولدى القاهرة مواقف حاسمة في هذه المسألة. وخاضت حربا شرسة ضد المتطرفين في الداخل دون أن تتورع عن الانتقام لأبنائها منذ سنوات في بؤر تمركز فيها إرهابيون داخل ليبيا، وتأكدت أن الكثير من العمليات التي تقع في مصر لها امتدادات لوجستية في ليبيا، وأعلنت ذلك على الملأ وبوضوح.
 
راعت القاهرة وقتها أن يكون هذا التصرف متسقا مع الشرعية الدولية، وحصلت على مباركة صريحة وضمنية من قوى كبرى عندما احتاجت لتوجيه ضربات قاصمة للإرهابيين خارج أراضيها، وضوء أخضر من البعض للتمادي في هذه العمليات لشل حركة المتطرفين تماما، غير أنها اكتفت بما حقق رسالتها بحزم في حينه، ورفضت توسيع ضرباتها تحت أي مغريات.
 
تلقت مصر إشارات مبكرة قوية لدفعها للتدخل وحسم الموقف عسكريا في ليبيا، وقبل أن يتضخم دور الميليشيات، لكنها امتنعت عن الاستجابة، خوفا من أن يكون هذا فخا نصب للجيش المصري يصعب الخروج منه بسهولة ويواجه مصير بعض الجيوش العربية المنهارة، لاسيما أن بحر الرمال العظيم متحرك ومفتوح وخادع وقد يجرف قواتها بعيدا.
 
علاوة على عدم الثقة في الوعود غير المباشرة لبعض القوى الدولية، والتي تلقتها للتدخل الشامل. فثمة دول غربية لها مصالح متشابكة في ليبيا تضطرها للتعامل مع قوى متنافسة في آن واحد. تتولى شركاتها تهريب السلاح للميليشيات وتقبض من خزانة المصرف المركزي، وتوحي بوقوفها ضد الإرهاب وتوحيد المؤسسة العسكرية.
 
دفعت هذه التناقضات الحسابات المصرية لتتمسك بعدم التدخل عسكريا في ليبيا أو غيرها، الأمر الذي أقلق الشركاء في كثير من الهموم الإقليمية التي تستوجب تدخلا حاسما. واعتبره البعض ضعفا أو ترددا ربما يضر بدور القاهرة الإقليمي عندما يتم ترسيم الحدود السياسية لغلق الأزمات المشتعلة في المنطقة، ويظهر الفرق بين التفكير التكتيكي والاستراتيجي.
 
وفرت بعض المعطيات المتذبذبة ذخيرة لخصوم مصر من القوى التي تقف خلف الكتائب المسلحة في ليبيا، وجعلت صوتهم مسموعا في بعض الدوائر حول تدخلها عسكريا ودعمها بالمعدات المتطورة للجيش بقيادة المشير حفتر.
 
مع أن ذلك جرى نفيه مرارا على لسان مسؤولين في القاهرة، غير أن كثيرين لا يصدقون هذا النفي، وتنتابهم هواجس كبيرة حيال دعم خفي يصل لمعسكر حفتر، انطلاقا من تأثير ما يدور في ليبيا على الأمن القومي المصري، وصعوبة الصمت على التجاوزات الأمنية.
 
كما أن مصر تملك العديد من الأوراق التي ترجح كفتها وهيأت المجال لعدم استبعاد التدخل في أي لحظة. فعلاقاتها الوطيدة تتخطى حدود المشير حفتر إلى كثير من القوى الفاعلة، من ثوار فبراير وحتى النظام القديم بأطيافه المختلفة، وزعماء ومشايخ القبائل، وأبواب مصر مفتوحة تقريبا لكل الليبيين الوطنيين.
 
الحلول الدبلوماسية
 
رأت مصر أن أي مغامرة خارجية تزعجها، وتؤثر سلبا على الميراث المشترك مع ليبيا لأجيال قادمة، وذاكرة الشعوب لا تنسى غالبا هذا النوع من التدخلات. كما أن منهج الرئيس السيسي يرفض الانخراط في حروب خارج الحدود، ما لم تكن الدولة مضطرة إليها، وفي قمة أولوياته ترتيب الأوضاع الداخلية، واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية.
 
في كل الأزمات التي خاضتها القاهرة مؤخرا، بدءا من ليبيا وحتى إثيوبيا ومرورا بالسودان خلال حكم عمر البشير، لم تلوح بورقة الحرب. ولم تتجاهل بناء جيش قوي يمتلك معدات حديثة كنوع من الردع الاستراتيجي والاستعداد لصد أي عدوان خارجي.
 
يمكن التوقف عند مجموعة من المحددات الرئيسية التي تؤكد أن التقديرات المصرية تستبعد التدخل العسكري في ليبيا. وهذا الخيار غير مطروح بالمرة في الوقت الراهن، طالما هناك فرصة للتفاهم السياسي، ولا يوجد اعتداء حقيقي يهدد الأمن القومي، ولن يتم الانجرار وراء دعايات مغرضة أو حملات تحريض متعمدة، أو إغراءات مادية معينة.
 
الأول: دعم مبدأ التسوية السياسية للأزمة الليبية. في جميع المبادرات التي طرحت والمؤتمرات التي عقدت في باريس وباليرمو وأبوظبي، كانت مصر حاضرة، ومعتمدة على علاقات جيدة تربطها بالدول المعنية. فهي منفتحة على روسيا والولايات المتحدة، وإيطاليا وفرنسا، وتتعاون بجدية مع ألمانيا لإنجاح القمة الدولية في برلين. وتنسق مع دولة الإمارات العربية المتحدة باستمرار. وتقف ضد تركيا وقطر وكل القوى التي تدعم الإرهاب والمتطرفين في ليبيا.
 
الثاني: التوزيع العادل للثروة الليبية، ومنع السيطرة على المصرف المركزي من قبل حكومة الوفاق، واستقطاع أموال باهظة لحساب قادة الميليشيات وتمويل عمليات إرهابية لحساب جماعات مؤدلجة تمثل خطرا على وحدة الدولة. ومع جمع شمل المؤسسات الوطنية، وفي مقدمتها الجيش والشرطة، وتتولى قوات نظامية القبض على دفة الأمور بدلا من العصابات المسلحة التي تريد احتكار التيار الإسلامي للسلطة والثروة.
 
الثالث: الربط بين المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتحرك عليها بالتوازي، لأن فكرة العزل تمنح فرصة لبعض القوى الرافضة للتسوية الشاملة للتلاعب بها وجرها إلى مستنقعات قذرة توفر غطاء للميليشيات للهروب من الاستحقاقات المطلوب الوفاء بها عاجلا، وتجعل البيئة مواتية لاستمرار المعارك.
 
الرابع: معركة طرابلس لن يتم حسمها بالأدوات العسكرية، لأن الجيش الليبي يرفض إزهاق آلاف الأرواح، والكتائب المسلحة تلعب بهذه الورقة جيدا، وتندس في صفوف المواطنين في الأماكن المزدحمة بالسكان، بما يشل حركة الجيش في التعامل بحرية مع الإرهابيين. كما أن السيطرة تماما على العاصمة تحتاج وقتا قد يصل إلى عامين لتنظيف جيوبها من المتطرفين الذين أوجدوا لهم شبكة مصالح مع شرائح مجتمعية مختلفة.
 
في ظل هذه البيئة المعقدة، تصمم مصر على رفض الحلول الخشنة وتغليب الحلول الناعمة، خاصة أنه تم تقويض دور المتطرفين في المنطقة الشرقية القريبة من حدودها، وتأمينها بما يقلل من التداعيات التي تهدد الأمن القومي مباشرة، وتجعل من التدخّل العسكري الشامل خيارا غير مطروح حاليا.