طوفان الأقصى قراءة متعمقة
خَلقت عملية "طوفان الأقصى" العديد من التساؤلات الآنية والمستقبلية وما هي تداعياتها على كافة الأصعدة، والتي يمكن أن تتمحور في هذا الإطار.
ثمة قلق كبير برز منذ اللحظات الأولى حول مدى حجم ردة الفعل والتصورات التي ستكون عليها المعركة غير المتكافئة بين طرفين أحدهما يملك قضية ويضحي من أجلها ولا يستسلم وبين الآخر الذي يمتلك ترسانة من الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا الدقيقة بالإضافة إلى سلة من التحالفات والتخادمات التي لا آخر لها مع القوى الكبرى صاحبة التأثير الأقوى والقرار الفاعل في "الشرق الأوسط" والساحة العالمية..
منذ الهجوم المفاجئ والعملية البطولية الجريئة للمقاومة الفلسطينية وردة الفعل المدمرة من قبل الكيان الصهيوني بقصف قطاع غزة بشراسة وقتل المدنيين، وهدم المباني السكنية والبنية التحتية آخرها (مستشفى المعمداني) والتي سقط فيها أكثر من خمسمائة شهيد ومئات الجرحى حسب الاحصائيات الأولية المعلنة، في سابقة مرعبة دون أي مراعاة لحقوق الإنسان أو القوانين الدولية على طريقة الأرض المحروقة، وهو ما يعكس الصورة الجلية التي قامت عليها دولة إسرائيل منذ وعد بلفور مرورا ب48 حتى المجازر التي توالت تباعا دون توقف إلى يومنا هذا.
تلك الأفعال ترقى إلى مستوى جرائم حرب ضد الإنسانية، وإبادة جماعية ستشكل حالة من اليقظة لدى الشعوب والأنظمة التي تكره الغطرسة القائمة على فرض القوة في السيطرة وفتح أبواب الكراهية والعنصرية التي تدفع إلى ارتكاب الكثير من حالات الاعتداء والعمليات العدائية سواء في أوروبا أو أمريكا أو بعض دول آسيا كنتيجة طبيعية لما تقوم به الصهيونية ومن اصطف في فلكها.
في الحقيقة التساؤلات كثيرة حول العملية، ما دوافعها وما نتائجها على القضية الفلسطينية؟ دقة التحضير لها؛ وغياب كل نشاط الأجهزة المتطورة لدى الكيان الصهيوني بما فيها أجهزة الاتصالات ذات الاستشعار الدقيق، والسياج المعد بعناية فائقة لمواجهة وكشف حتى دبيب النملة، وكذلك الجهات التي تقف وراء العملية من حيث التخطيط والإعداد والدعم.
كل تلك التساؤلات تم إشباعها من قبل الإعلام والمحللين، وهناك شبه إجماع على أن الذي حدث من عنصر المفاجأة كان صادما للجميع على اعتبار أن دولة الكيان الصهيوني قائمة على قوة غير عادية مثل "القبة الحديدية" والجاهزية العالية لأي عملية من قبل محور المقاومة الفلسطينية وغيرها من القدرات الاستخبارية.
أضف إلى ذلك، وهي النقطة الأهم، أن هذا العدو التاريخي كانت له يد واضحة في زعزعة أمن واستقرار كثير من الأنظمة العربية، وهذا بكل تأكيد أدى إلى إضعاف القرار والإجماع العربي؛ ما شكل حالة استقرار ووئام لدى هذا الكيان المتقوقع في منطقة جغرافية صغيرة شديدة الحساسية والأهمية في نفس الوقت.
هناك تساؤل آخر مهم برز منذ اللحظات الأولى لعملية طوفان الأقصى وردود الفعل الإسرائيلية يدور حول محور المقاومة المتمثل بإيران واذرعها في المنطقة وإلى أي مدى يمكن مشاركتها في هذا المعترك الذي بدا عنيفا خاصة من قبل الجيش الإسرائيلي.
في الواقع من الصعوبة بمكان الوقوف على كل هذه التساؤلات وقراءة المعطيات والنتائج التي لا تزال غامضة في ظل تصعيد خطير وهجمات بشعة خلفت ما يقارب أربعة آلاف شهيد حتى اللحظة بانتظار اجتياح قطاع غزة بحسب تصريحات قيادة الجيش الإسرائيلي.
بالإمكان التعريج على مسألة غياب جانب الاستخبارات الإسرائيلي واعتماده على التكنولوجيا التي حيدتها خطط المقاومة بشكل تام واستخدام تكتيك متنوع في الهجوم وإنهاء العملية بأقل الخسائر والكثير من المكاسب التي يتم استخدامها في المفاوضات الآن منها ورقة الأسرى العسكريين.
هذه العملية في الحقيقة أعادت الاعتبار من ناحية للقضية الفلسطينية كقضية أزلية لا يمكن نسيانها، كما شكلت حلقة جديدة من كشف هشاشة كافة التجهيزات والادعاءات التي يقوم عليها الجيش الإسرائيلي، الأمر الآخر هو مدى تواجد إيران في صلب الحدث الأبرز أم أن الأمر مقتصر على التوغل في العواصم العربية وإسقاطها لا أكثر، أو الاكتفاء بالدعم عن بعد؟ خاصة في ظل التواجد الأمريكي والتصريحات المرتبكة للمسؤولين الإيرانيين.
النقطة الأهم والمحورية في كل ما يجري اليوم على الأرض من ترتيبات وتصريحات ودعم ووصول الأسطول الأمريكي، هو التأكيد على جعل التواجد اليهودي يبدو في ظاهره على أنه صراع ديني، لكن في حقيقته هو صراع سياسي جاء كنتيجة طبيعية لانتهاء حقبة الاستعمار الغربي خلال العقود الماضية من القرن الماضي، بالإضافة إلى ضرورة خلق قلق دائم في قلب "الشرق الأوسط"؛ وهذا هو المعطى الذي لا يمكن استبعاده، بعيدا عن نظرية المؤامرة، إلا أن الواقع أبلغ من كل الهواجس والشكوك.
هناك نقطة مهمة أو تساؤل بديهي وهو ما مدى جاهزية حركات المقاومة الفلسطينية لردود الفعل لطالما أنها نجحت في الهجوم، هل هي جاهزة تماما للدفاع؟ هذا التساؤل حتى اللحظة سابق لأوانه لكن بالمجمل المقاومة ومن خلفها الشعب الفلسطيني لديهم قضية مصيرية يؤمنون بها، ولا يمكن التفريط بها لصالح أي مشروع، وهذا يخلق حالة معنوية في مقابل الترسانة التي عليها إسرائيل وحلفاؤها.
الأمر الأهم هو أن إقدام المقاومة على العملية وشجاعتها الفائقة لا يعني بالضرورة أنه لديها عصا سحرية فيكفي الإرادة التي كسرت غطرسة العدو والتضحية الجليلة التي تجعل من إبراز القضية الفلسطينية هدفا كبيرا وأساسيا، لذا فإن وقوف المقاومة ومواجهة كل هذه التجهيزات بحد ذاته يعد انتصارا ورسالة واضحة بأن الاجتياح والقصف لا يخيفهم وان كانت فاتورة الضحايا من المدنيين كبيرة تعكس الصورة التي عليها الكيان الصهيوني منذ نشأته.
بالنسبة للتدخل الأمريكي هو رسالة استباقية للجميع بأن الحفاظ على دولة اسرائيل آمنة مستقرة من الأولويات القصوى في استراتيجية السياسة الأمريكية وأن أي تدخل من طرف آخر ستكون له عواقب وخيمة..
إجمالاً، عملية طوفان الأقصى خلطت الكثير من الأوراق التي كانت في طريقها إلى إعلان النتائج، كما أعادت المفاوضات بين طرفي السلطة الفلسطينية والإسرائيليين إلى نقطة الصفر مع أنها في الحقيقة مفاوضات غير ناجعة لأنها تقوم على الاستقواء ونشر مزيد من المستوطنات والضغط باتجاه تحجيم القضية وتهجير السكان الأصليين.
وأخيرا يمكن الجزم بأن ما حدث خلال العشرة أيام الماضية سيكون له تداعيات جديدة وكبيرة على المستوى السياسي والعسكري فيما يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وربما على مجمل الصراع العربي _ الإسرائيلي، ونحن بانتظار نتائج ومعطيات ما ستكون عليه العلاقات العربية بالطرفين، المقاومة من جهة وإسرائيل ومعها الغرب من جهة ثانية.
إن المشهد جد معقد وصورة انعكاسات الأقصى على القضية الفلسطينية وعموم الإقليم ستكون هذه المرة مختلفة الإيقاع وإعادة القراءات من الجميع.