"راديو الأشباح"... إذاعة عسكرية روسية من عهد الحرب الباردة تعود إلى الواجهة
ارتفع عدد الرسائل التي تبثها محطة الإذاعة الروسية UVB-76 التي أنشئت في عهد الحرب الباردة، بشكل ملحوظ منذ بداية ديسمبر/كانون الأول 2024. © أستوديو غرافيك فرانس ميديا موند
تُعرف باسم إذاعة "يوم القيامة" في روسيا، يناديها آخرون راديو "الأشباح"، تبث طنينا راداريا جعل هواة الراديو يطلقون عليها اسم The Buzzer (طنين النحل). ومع رسائل مشفرة تبثها بين الفينة والأخرى والتي لا يفهمها أحد، تبث هذه الإذاعة إشارة مستمرة على نفس التردد منذ السبعينيات. لكنها عادت إلى الواجهة في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، ليذاع صيتها من جديد وتصبح محل حديث العامة. ما قصة هذه الإذاعة الغريبة؟ وما الذي يجعل أحد بقايا الحرب الباردة تواصل تغذية أساطير الأشباح والجوسسة؟
يبث "راديو الأشباح" بشكل مستمر ويرسل إشارة على شكل نغمة قصيرة واحدة تتكرر عدة مرات في الدقيقة، وفق وكالة الأنباء الروسية نوفوستي. وخلال هذه الفترة، تبث الإذاعة أصوات بشرية باللغة الروسية لتخترق الطنين، ثم تختفي لتعود مرة أخرى، وتتكرر العملية لعدة مرات.
في صباح الثلاثاء 17 ديسمبر/كانون الأول، وعلى تردد الموجة القصيرة 4628 كيلو هرتز، استمع عشاق "الألغاز" الإذاعية وقصص الجواسيس القادمين من الأقاليم الباردة، باهتمام لسمفونية "بحيرة البجع" لبيوتر إيليتش تشايكوفسكي ومقتطف من النشيد السوفياتي ومقاطع من أغنية "أنا روسي" للمغني شامان.
لكن، قبل أسبوع، بلغ الفضول أوجه عندما تم بث"سرب" مهول من الكلمات على هذه المحطة الإذاعية الروسية المعروفة باسم "UVB-76"، والتي يُرجح أن تكون تحت إشراف هيئة الأركان العامة للجيش الروسي. عادةً ما تقوم فقط ببث "طنين" على فترات منتظمة. لكن هذه المرة بعثت بـ24 رسالة "مفهومة" خلال 24 ساعة. "من الواضح أن هذا العدد من الرسائل كبير جدا بالنسبة إلى هذه المحطة الإذاعية"، على حد قول ماريس غولدمانيس، مدير موقع "محطات-الأرقام" "numbers-stations"، الذي أمضى أعواما عديدة في الاستماع إلى هذه الإذاعة الروسية.
"أبجدية" و"بلياردو" و"بحيرة البجع"
لكن، لماذا في 13 من شهر ديسمبر/كانون الأول، سُمع صوت يقول كلمات مثل "أبجدية" و"بلياردو" و"صرير" و"صفر تبذير" باللغة الروسية؟ وكيف بثت بعدها سمفونية "بحيرة البجع" وأغنية بوب روسية من 2022 على هذا التردد الإذاعي الذي يطلق عليه أيضا اسم "The Buzzer" (طنين النحل)؟
لا توجد إجابة مؤكدة لكل هذه الأسئلة. ما يضفي طعما خاصا لـUVB-76 لدى عشاق هذا النوع من المحطات الإذاعية.
ويؤكد جيف هاون، المتخصص في القضايا الأمنية الروسية بمدرسة لندن للاقتصاد قائلا: "تنتمي The Buzzer إلى عائلة -محطات الأرقام-"، التي استخدمتها بشكل خاص أجهزة المخابرات السوفياتية والقوى الغربية خلال الحرب الباردة لبعث رسائل مشفرة إلى عملائها المتسللين".
ويشار إلى أن جميع المحطات الإذاعية تعمل بنفس المبدأ، على غرار إذاعة يو في بي 76 أو لينكولنشاير بوتشرLincolnshire Poacher وهي محطة أرقام بريطانية ذاع صيتها سابقا، أو تشيري رايب Cherry Ripe الإذاعة التي يشتبه في أن تكون محطة لجواسيس أستراليين خلال الحرب الباردة: جميعها تبث إشارة متكررة على فترات منتظمة ("طنين"، مقتطفات أغاني، وغيرها...) ثم، وفي أوقات محددة، تبث رسائل مشفرة.
هذا، وإن اختفت أهمها، مثل محطة لينكولنشاير بوتشر التي توقفت عن البث في 2008، "تواصل بعضها نشاطها، خاصة في روسيا"، وفق ما يؤكد توني إنغوسن، المتخصص في الشؤون الاستخباراتية بجامعة لوند في السويد وصاحب دراسة عن "محطات الأرقام". ويضيف ماريس غولدمانيس قائلا إنه يشتبه أيضا في أن تستخدمها دول أخرى مثل كوريا الشمالية وكوبا.
تدريب الجواسيس المبتدئين
لكن تختلف "محطة الأشباح" عن غيرها بحسب توني إنغوسن، "لأنها تبث دون انقطاع منذ أكثر من أربعين عاما، وهو أمر فريد على حد علمي". ويضيف جيف هاون قائلا: "معظمها يختفي من وقت لآخر، وتتم إعادة تنشيطها عند الحاجة".
وقد جعلت هذه الميزة بعض الاختصاصيين في "محطات الأرقام" يتساءلون عما إذا كانت السلطات السوفياتية قد نسيت فصل "The Buzzer" عند سقوط الاتحاد السوفياتي، وما إذا كانت موسكو تبقيه قيد التشغيل فقط لبث رسائل من وقت لآخر، من دون أي معنى خفي.
اقرأ أيضاأمريكا: "ماين وان"... شركة صينية لتعدين العملات المشفرة أم موقع مراقبة وتجسس؟
هذه المحطات الإذاعية ليست الأولى من نوعها في تاريخ "محطات الأرقام". ويوضح جيف هاون قائلا: "مع هذا النوع من المحطات الإذاعية، لا يمكن التأكد أبدا من أنها ليست وسيلة إلهاء مدبرة يستغلها العملاء... يمكنهم استخدامها لبث رسائل مشفرة كاذبة على أمل إضاعة وقت أجهزة مخابرات أخرى، التي قد تقوم بتعبئة الموارد "للاستماع إلى التردد".
ويعد الغموض الذي يحوم حول إذاعة UVB-76 أحد أسباب "نجاحها". كل الأقاويل والتأويلات ممكنة بخصوص هذه الإذاعة الموجودة منذ الحرب الباردة.
"اليد الميتة"
ويخلص ماريس غولدمانيس إلى القول "من الواضح أن هناك موضة إعلامية حول هذه الإذاعة". ويضيف أحد الخبراء في مجال التضليل الإعلامي عبر الإنترنت، والذي فضل عدم الكشف عن هويته: "إنها محطة إذاعية مثيرة للاهتمام، وقد استقطبت عددا كبيرا من مقاطع الفيديو التي تروج لنظريات المؤامرة وقصص مجنونة أخرى على منصة يوتيوب".
وباستثناء "القصص الخيالية" حول الاتصالات مع "كائنات فضائية"، فإن الفرضيات التي غالبا ما يتم تداولها تتعلق بمخاطر الحرب النووية. لم يُطلق على إذاعة UVB-76 لقب "إذاعة يوم القيامة" عبثا. فقد رُجّح بأن تكون في الواقع نظام ما يعرف بـ"اليد الميتة". وهو نظام آلي يطلق تلقائيا ضربة نووية إذا انقطعت إشارة الإذاعة.
لكن التفسير الأكثر مصداقية بحسب ماريس غولدمانيس، الذي أمضى أكثر من ثماني سنوات في الاستماع إلى هذه المحطة وتحليلها، هو أن UVB-76 "تُستخدم بشكل أساسي لتدريب عملاء الاستخبارات الإلكترونية الجدد، وأحيانا لإرسال أوامر محددة للجيش."
وغالبا ما تكون الكلمات المنطوقة بمثابة عمل تطبيقي للتأكد من أن الجواسيس المبتدئين يتدربون على كيفية فك تشفير هذه الرسائل بطريقة صحيحة. ويوضح توني إنغوسن قائلا إن "محطات الأرقام هي أنظمة اتصال أحادية الاتجاه: تبث الإذاعة رسالة لا يمكن فهمها إلا باستخدام نظام فك تشفير ملائم."
"الأمريكيون"
ولكن، حتى ولو كان ماريس غولدمانيس مقتنعا بفرضيته، فإنه يدرك أيضا بأنها مجرد تخمين. لأن الجيش الروسي لم يقر أبدا بإنشاء هذه الإذاعة ولم تعترف السلطات الروسية أصلا بوجودها. بيد أنها ضُبطت متلبسة حينما استخدمت مؤخرا "محطات أرقام".
ويؤكد جيف هاون بخصوص محطات الأرقام قائلا: " إنه نظام الاتصالات الذي استخدمه العملاء النائمون الذين تم كشفهم في 2010 في الولايات المتحدة". حتى أن فضيحة التجسس المدوية هذه، ألهمت سلسلة التجسس "الأمريكيون".
إذن، ما الذي يجعل روسيا في عصر الإنترنت والرسائل المشفرة، تواصل استخدام نظام يبدو وكأنه مستوحى من أفلام جيمس بوند الأولى؟ "لأن روسيا لا تزال تعمل أحيانا وفق مفاهيم الحقبة السوفياتية. إذ أنها لا تثق كثيرا في تقنيات الاتصالات الحديثة"، بحسب ماريس غولدمانيس.
إضافة إلى ذلك، فإن "أجهزة الاستخبارات على علم بأن أي شيء له علاقة بالإنترنت يمكن اختراقه، فيما تكاد أن تكون -محطات الأرقام- محصنة بالكامل ولا يمكن تعقب مصدرها"، على حد قول توني إنغوسن.
وإلى ذلك، يشير هذا الخبير أيضا إلى وجود ابتكارات تقنية جديدة: "على سبيل المثال، هناك محطات تبث الرسائل بصوت عالٍ وعندما يتم تطبيق وحدة فك تشفير الصوت مباشرة، يظهر نص مختلف تماما."
من المرجح أن تصبح الرسائل التي تبثها إذاعة UVB-76 جزءا من التاريخ الطويل لما قيل أو بث من غرائب بشأن هذه المحطة. فقد رجح البعض على قناة تلغرام أن إحدى الرسائل قد تكون أمر إطلاق قادم لصاروخ باليستي روسي فرط صوتي من طراز أوريشنيك.
لكن تقدم ماريس غولدمانيس تفسيرا أكثر واقعية وتقول: "لقد لاحظت مرارا، زيادة في عدد الرسائل فعليا في نهاية العام. وقد يتزامن ذلك مع تحديث لنظام الإرسال. وبالتالي يجب التأكد من أن الجميع أخذ ذلك بعين الاعتبار."
المقال بالفرنسية: سيباستيان سايبت / اقتباس: فارس بوشية