كسارة الموت في ذي السفال بإب.. صراع حوثي يهدد الإنسان والأرض والبيئة (تقرير)
في الوقت الذي يئن فيه اليمن تحت وطأة الأزمات الإنسانية والاقتصادية، تتجه محافظة إب نحو مأساة بيئية جديدة، عنوانها مشروع كسارة أحجار يصرّ نافذون حوثيون على إقامته في مديرية ذي السفال، متحدّين إرادة الأهالي، ومتجاهلين تحذيرات المختصين من كارثة قد تدمّر الزراعة والصحة العامة والبيئة الطبيعية، في واحدة من أجمل مناطق الريف اليمني.
ورغم الرفض الشعبي الواسع، والاعتراضات الرسمية التي وصلت إلى مكتب المحافظ المعيّن من الحوثيين، تتكرر محاولات إعادة المشروع للمرة الثالثة، بدعم مباشر من المدعو أبو علي النوعة، منتحل منصب وكيل المحافظة الذي يتهمه السكان بأنه "باع الأرض والعرض"، على حد وصفهم، مقابل رشى مالية من المستثمر الحوثي القادم من محافظة عمران.
رفض شعبي
في قرية الخربة بمديرية ذي السفال، خرج الأهالي رجالاً ونساءً وأطفالاً، ليقولوا كلمتهم بوضوح: "لن تدخل الكسارة قريتنا".
لم تكن هذه المرة الأولى التي يقف فيها السكان ضد المشروع، فقد سبق أن تم إفشاله مرتين، لكن النافذين الحوثيين عادوا مجدداً بمحاولات يائسة لإقحامه بالقوة، وسط حماية أطقم حوثية وتهديدات ومواجهة مسلحة علنية مع الأهالي.
يقول أحد أبناء المنطقة: نحن لا نعارض التنمية، لكننا نرفض أن تكون على حساب حياتنا وصحتنا وبيئتنا. الكسارة مشروع موت جماعي.

تواطؤ سلطوي وتمرد إداري
بحسب مصادر محلية، كان محافظ المحافظة المعيّن من قبل الحوثيين عبدالواحد صلاح قد أصدر توجيهات صريحة بإيقاف المشروع، غير أن الحوثي المدعو أبو حسن النوعة تمرد عليها، كونه منتحل منصب وكيل لمحافظة إب مستنداً إلى دعم قيادات حوثية عليا في صنعاء وصعدة، ليكشف بذلك عن صورة ازدواجية القرار داخل الإدارة الحوثية، في سلطة إب حيث تتغلب المصالح الشخصية على القوانين واللوائح.
ويشير ناشطون إلى أن الوكيل الحوثي المدعو النوعة يشارك فعلياً بنسبة من أرباح المشروع، في ظل اتهامات متزايدة له بتلقي مبالغ مالية مقابل تسهيل مرور المعدات إلى موقع الكسارة.
اللجنة الأمنية.. شاهد الزور
في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، شكلت الميليشيا لجنة من الأمن السياسي والأمن العام ومديرية السياني، لبحث موضوع الكسارة. لكن الأهالي رأوا في اللجنة "خصماً لا حكماً"، بعد أن طلبت منهم تهدئة التصعيد الإعلامي وعدم ذكر النوعة بالاسم لأنه مجاهد، حد قولهم.. بل طالبتهم بتسليم ثمانية بنادق عدال كشرط لبحث القضية!
رفض الأهالي تلك الشروط المهينة، مؤكدين أن اللجنة ليست سوى غطاء لتمرير المشروع لصالح المتنفذين.
كوارث بيئية وصحية تلوح في الأفق
تحذيرات الأهالي ليست عاطفية أو انفعالية، بل تستند إلى حقائق علمية مدعومة بتقارير ودراسات بيئية عالمية.
فوفقاً لعدد من الأبحاث (Kafu-Quvane & Mlaba, 2024) فإن كسارات الأحجار تُعد من أبرز مصادر التلوث الهوائي، إذ تنتج غباراً دقيقاً يحمل جزيئات السيليكا القاتلة، التي تسبب أمراضاً تنفسية مزمنة مثل الربو وتليف الرئة والسحار السيليسي.
ويؤكد الباحث (Taiwo 2024) أن التعرض المستمر لهذا الغبار يؤدي إلى إصابة الأطفال وكبار السن بأمراض يصعب علاجها، فيما تسجل المناطق المحيطة بالمحاجر عادة أعلى معدلات التلوث البيئي في الريف.

الزراعة تختنق والماء يغور
منطقة ذي السفال، الغنية بخصوبتها وغطائها النباتي، تعتمد على الزراعة كمصدر رئيس للعيش. لكن الكسارة تهدد بتحويل هذه الخضرة إلى رماد.
فالغبار المتساقط على أوراق النباتات يقلل من قدرتها على التمثيل الضوئي، مما يؤدي إلى ضعف الإنتاج وتلف المحاصيل.
كما تؤدي أعمال التفجير والتكسير إلى تغيير في الطبقات الأرضية واضطراب حركة المياه الجوفية، ما يتسبب بانخفاض منسوب الآبار وتلوث مياه الري (Lee et al., 2024).
الناشط نبيل الفقيه يقول بمرارة: نهبوا كل شيء من المحافظة، لم يتبق إلا هواؤنا وماؤنا، واليوم يريدون تدمير الزراعة التي نعيش منها.
المرأة صوت الحق في وجه الجرافة
في مشهد لافت، خرجت نساء قرية الخربة بمديرية ذي السفال في تظاهرة سلمية، وهن يرددن: “لا لكسارة الموت في قريتي!”
الناشط صلاح السقاف كتب على صفحته: المرأة اليمنية اليوم لم تعد صامتة. هي من تواجه الظلم بكرامة وتصرخ ضد التلوث والفساد. هي الضمير الحي الذي يذكّر الجميع أن الوطن ليس للبيع.
هذه الصورة الرمزية للمقاومة النسائية في ذي السفال تعكس تحوّل المجتمع من الصمت إلى الفعل، ومن الخوف إلى المواجهة.
جريمة بيئية بغطاء استثماري
الناشط علي التويتي وصف المشروع بأنه “جريمة بغطاء استثماري”، قائلاً: أي منطق يبرر إنشاء كسارة وسط قرى مكتظة بالسكان؟! هناك آلاف الجبال الخالية يمكن إقامة المشروع فيها، لكن الطمع جعلهم يقتربون من أرواح الناس ومزارعهم. وأضاف: ما نراه ليس تنمية بل تدمير، ليس استثماراً بل اغتصاباً للأرض والهواء.
صراع إرادات.. المواطن في مواجهة الميليشيا
ما يجري في ذي السفال لم يعد مجرد نزاع محلي حول مشروع صناعي، بل أصبح رمزاً لصراع الإرادة بين المواطن البسيط والسلطة الميليشياوية.
الأهالي يواجهون أطقماً مدججة بالسلاح، وإدارات خاضعة لنفوذ المتربحين، بينما تتفرج مؤسسات الدولة التي أفرغتها الميليشيا من مضمونها.
الناشط إبراهيم عسقين يلخّص المشهد بقوله: المواطنون جهة واحدة، والسلطة ثلاث جهات ضدهم، لكن إرادتهم أقوى من كل الطغيان.
الأرض لا تصمت طويلاً
قضية كسارة ذي السفال ليست ملفاً بيئياً فحسب، بل مرآة تعكس واقع اليمن اليوم: دولة تتآكلها المصالح، وسلطة عبثية لا تعبأ بحياة الناس. ورغم الضغوط، يبقى صمود الأهالي هو الحد الفاصل بين الحياة والموت البيئي. إنها معركة وجود، لا عن كسارة فحسب، بل عن حق الإنسان في بيئة نظيفة وكرامة مصانة وأرض لا تُباع.