كيف قاومت مِلْحَان جند الإمام؟
في تاريخ الإمامة الزيدية المُظلم، ثمة جرائم حرب شنيعة سُجلت في حق مُناهضيهم، تباهى مؤرخوهم - بلا حرج - بارتكابها، وكان أكثرهم إسفافًا المُؤرخ عبدالكريم مُطهر، الذي أرخ - مطلع عشرينيات القرن الفائت - لحروب الإمام يحيى حميد الدين ضد اليمنيين، وكان كثيرًا ما يتحدث عن نهب المُتفيدين لممتلكات الرعية المساكين، بلا هوادة، وطردهم من أراضيهم، وحرقهم وتدميرهم لمنازلهم، بلا رحمة، وقد تبدت أشنع تلك التوصيفات أثناء مواجهات جبال بُرع، وصَعفان، ومِلْحَان، حيث أطلق ذات المُؤرخ المُتعصب ليراعه العنان، وأوجعنا كثيرًا بذكره لتفاصيل مأساوية تكررت كثيرًا في (كتيبة الحكمة)، كتابه الذي ليس له من اسمه نصيب!
تابعة لمُتصرفية الحديدة
كان جَبل مِلْحَان باستثناء أطرافه الغربية من ضمن المناطق التي دخلت تحت طاعة الدولة الإمامية المُتوكلية رغبة لا رهبة، وذلك بعد أنْ قام رؤساء ذات الجبل - كما أفاد المُؤرخ عبدالكريم مطهر - بمُراسلة الإمام يحيى لذات الغرض، ليُرسل الأخير بإسماعيل بن حسن الوادعي عاملًا لتلك الناحية التابعة قبل ذاك لمُتصرفية الحديدة، والتابعة بعد ذاك للواء المحويت الذي استحدث سنة 1941م، ولم يكد القائد الوادعي يَستقر فيها حتى فاجأه الأهالي بتمردٍ عاصف أكتوبر 1919م، أوى على إثره إلى أحد الحصون المنيعة.
الجدير ذكره أنَّه سبق للإمام يحيى أنْ أرسل إسماعيل الوادعي قبل ثمانية أعوام إلى المحويت، وذلك ليتولى بعد توقيع صُلح دعان أمر تلك الجهة باسمه يناير 1912م، وأكمل المُؤرخ محمد زبارة هذه الجزئية بقوله: «وجرت بينه وبين بعض أتباع الإدريسي مَعارك فيما حول مِلْحَان، وحفاش، واستمرت الحرب مدة».
من جهته قال المُؤرخ إسماعيل الوشلي أنَّ مِلْحَان كانت خلال تلك الفترة تابعة للأدارسة، وأنَّ مُواطنيها نقضوا عهودهم، ومالوا للجانب الآخر؛ وأنَّ محمد الإدريسي أرسل إليها بحملة عسكرية تحت قيادة محمد بن زيد بن الحسين، وأنَّ تلك الحملة تمركزت في سوق الولجة، وأكمل ذات المُؤرخ ذلك المشهد بقوله: «وكان قد بقي على العهد من أهل مِلْحَان قبيلة المعازبة، وأهل بدح، وهباط، فكانت الحرب بينهم وبين السيد إسماعيل.. غير أنَّ التأثير بالقتل من الجانبين قليل، لتواريهم بالأحجار.. وقد استولوا على كثير من قرى مِلْحَان، وزحزحوا منها قوم إسماعيل».
حاصر بعد ذلك الثوار المسنودين هذه المرة بالقوات الإدريسية العامل إسماعيل الوادعي في الحصن الذي أوى إليه مُدة، وقد حصلت أثناء ذلك معركة شرسة، قتل فيها - كما أفاد المُؤرخ الوشلي - عدد كبير من الطرفين، فما كان من العامل الـمُحاصَر إلا أنْ راسل عبده بن إبراهيم عابد - أحد أعيان منطقة الزيدية الـمُجاورة، طالبًا منه التوسط، وبالفعل تدخل عابد، ونجح في إخراجه من ذلك المأزق، ونجح أيضًا في الإفراج عن أسرى الطرفين، وبذلك عادت مِلْحَان مُؤقتًا لحكم الأدارسة.
سبق للعامل إسماعيل الوادعي أثناء الأحداث السابق ذكرها أنْ قام بمُراسلة الإمام يحيى طالبًا منه النجدة، فأرسل الأخير بالقائد العسكري عبدالله بن يحيى أبو منصر، استقر الأخير وعساكره لبضعة أسابيع في جبل حفاش المُقابل، دون أنْ يظفر بطائل.
شهداء الأنصار
توالت في ذات الفترة (أواخر عام 1919م) التمردات على الإمام يحيى في صعفان، وجبل مدول، وبني سعد، استنجد الثوار بالأدارسة، فأمدوهم بدعمٍ كبير، ليوجه الإمام يحيى - بعد معارك كر وفر عديدة - أوامره إلى القائد عبدالله أبو منصر بالتوجه من حُفاش إلى تلك الجهة، لتُطبق قواته وقوات أخرى قادمة من حراز على بني سعد كطرفي كماشة.
عاد القائد الإمامي عبدالله أبو منصر بعد ذلك النصر الـمُؤقت إلى حفاش، وكان في انتظاره فصل دامٍ من المُواجهات، سيطر خلالها على وسط مِلْحَان دون الأطراف؛ وذلك بعد أنْ سلك بقواته - التي تجاوز عددها الـ 1,000 مُقاتل - طُرقًا شديدة الوعورة، ليأتي قرار الإمام يحيى حميد الدين بتعينه عاملاً على تلك الناحية، وقد عمل وبأوامر من سيده على استمالة الأهالي؛ وذلك لما تُمثله المنطقة من أهمية استراتيجية، كونها جبل حصين مُطل على سفوح تهامة.
أتبع المُؤرخ مطهر نقله لتلك الأحداث بالقول أنَّ العامل عبدالله أبو منصر استأذن بالعودة إلى مدينة ثلا مقر عمله السابق، وأن الإمام يحيى أذن له، وجعل ولده محمدًا بدلًا عنه، وأضاف ذات الـمُؤرخ: «وأمر الإمام أيضًا النقيب أحمد بن يحيى حُبيش بالعزم إلى مِلْحَان، لما له من المعرفة السابقة بأحوال أهله، وهو ممن حضر الفتح السابق».
ضاق الأهالي ذرعًا من تواجد القوات الإمامية، التي تجاوز عددها الـ 1,000 مُقاتل، ومن تفاقم الجبايات، واستمر - تبعًا لذلك - اتصال بعضهم بالإدريسي، ليأتيهم المدد تلو المدد، وفي الوقت الذي كانت مناطق الأطراف مُشتعلة بالمواجهات، زاد التضييق على مشايخ المنطقة أكثر فأكثر، وأجبروا على مضاعفة رهائن الطاعة، ليتوجه الشيخ علي بن يحيى الأصابع بداية العام 1921م إلى صنعاء للمُراجعة، وشاكيًا بالعامل الجديد، إلا أنَّ مساعيه لم تنجح، وبقي الحال كما هو عليه.
وتوضيحًا للمشهد أترككم مع ما قاله المُؤرخ مطهر: «كان إرسال السيد يحيى بن علي أبو منصر بدلًا عن السيد محمد بن عبدالله أبو منصر، وتوجه مع علي يحيى الأصابع إلى مِلْحَان، فلم يتم بينهما التوافق، ولم تثمر تلك المساعي، وظهر من النقيب يقصد - ابن حبيش - الرُّغوب في البقاء بمِلْحَان»، وأضاف في موضعٍ آخر: «والنقيب ومن إليه من الأعوان باقون أيضًا، وجباية الأموال بنظره».
ولم يمضِ من الوقت الكثير، حتى عاد القائد عبدالله أبو منصر - بأوامر من الإمام يحيى - إلى تلك الناحية، وشرع في إصلاح أمورها، وترتيب حُصونها، في الوقت الذي لا تزال فيه المواجهات مُستعرة في أطرافها، وعن ذلك قال المُؤرخ عبدالكريم مطهر: «فلم تزل الحربُ ثائرة في أطراف الجبل من جهة تهامة، والزيلعي باقي على الخلاف، والمغربة تارة بأيدي المجاهدين، وتارة بأيدي المُخالفين، وقد صار سكان تلك الجهة مُشتتين في بلاد تهامة، وهنالك في المنواب وما فوقه جماعة من التهاميين وأشرار حاشد المخذولين (يقصد أصحاب الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر) وبينهم وبين المجاهدين في كل حين وقعاتٌ ومعاركٌ وقتالٌ مُستمر.. ولم تخلُ هذه الحروب من قتلى في كل معركة من البغاة كثير، وشهداء من الأنصار».
هزائم مُتلاحقة
من جهته قال المُؤرخ محمد عيسى صالحية إنَّ استمرار تلك المُواجهات حال دون استجابة شيوخ جبل مِلْحَان للوفاق مع الإمام يحيى، وأضاف أنَّ الهزائم لحقت - في نهاية الأمر - بقوات الأخير، وهو أمرٌ لم يعترف به المُؤرخ مُطهر إلا تلميحًا.
قال المُؤرخ مطهر أنَّ الأدارسة حققوا انتصارهم التالي ذكره بالخديعة، وذلك بعد أن استدرجوا القوات الإمامية إلى أحراش تهامة، وأشار إلى أنَّ التنافس بين القائدين (أبو منصر، وابن حبيش) أدى أيضًا إلى تلك الانتكاسة.
وعن الجزئية الأولى أضاف ذات المُؤرخ: «وقد كان مشايخ مِلْحَان ومنهم علي يحيى الأصابع قد اتفقوا على الغدر بجنود الإمام وعماله، ونكث الأيمان والعهود، والخروج عن الطاعة والجماعة، وتكاتبوا هم ومحمد طاهر رضوان في هذا الشأن، ووعدهم بإرسال جند إليهم، ومتى وصل الجند إلى أطراف الجبل، ثار سكان الجبل أيضًا معهم، واتفقوا على استدراج النقيب بتلك الحيلة».
لم يتحدث المُؤرخ الوشلي المنحاز للجانب الإدريسي عن تلك الحيلة، واكتفى بالقول إنَّ القوات الإدريسية نجحت تحت قيادة الشيخ هادي بن أحمد هيج في استعادة السيطرة على مِلْحَان فبراير 1923م، وبمعنى أصح على ما تبقى من مناطق ذلك الجبل، وذلك بمساعدة مائزة من قبل سُكانه، وتمكنت من أسر النقيب أحمد بن يحيى بن حبيش، و600 من أفراد الأخير، واغتنام عدد كبير من الأسلحة، من ضمنها أحد المدافع.
ما أنْ تبادرت إلى مسامع القائد عبدالله أبو منصر تلك الانتكاسة؛ حتى سارع بمُغادرة ذلك الجبل بمن معه من قوات محدودة، وذلك إلى منطقة الخبت المُجاورة، وقد صور المُؤرخ مطهر ذلك الانسحاب بقوله: «وكلما مَرَّ على قرية تلقاه أهلها بالحرب، ودفعهم عن طريقه، واستشهد بعض السادة من بيت أبو منصر، وبعض أصحابه، ولم يزل سائرًا بين هذه الخطوب إلى أنْ تيسرت له النجاة».
لم تقف القوات الإدريسية عند حدود مِلْحَان، بل حاولت تجاوز ذلك الجبل وصولًا إلى ناحيتي الخبت شمالًا، وحفاش غربًا يوليو 1923م، ودارت بالفعل مُواجهات شرسة بينها والقوات الإمامية، استمرت لعدة أيام، وعن ذلك قال المُؤرخ مطهر: «وكانت جنود الإمام في الظاهر، وأذرع، وأطراف حُفاش غير يسيرة، فتقدمت جموع الباغين عليهم.. واستمرت الحرب أيامًا بين الفريقين، في تلك المحطات، ومنَّ الله على المجاهدين بالنصر، فهزموا الأعداء في كل الجهات، إلى أنْ أرجعوهم إلى مِلْحَان».
وفي الشهر التالي، ثار أهالي عُزلة الشويع، ومخلاف قَيْهمة من ناحية حُفاش، وانضم لمساندتهم أهالي مِلْحَان، وتهامة، وبتوصيف أدق بعض أهالي السفح التهامي، ودارت بينهم وبين الإماميين معارك شرسة، أجبرت الإمام يحيى أن يعزز قواته الـمُرابطة هناك بـ 1,500 مُقاتل، تحت قيادة علي بن حمود شرف الدين.
حسمت القوات المُرسلة المعركة لصالح الإماميين، وعاثوا مجتمعين في تلك المناطق نهبًا، وخرابًا، وأجبروا سكانها على الرحيل، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر مُتشفيًا: «وأصاب أهل حفاش من البلاء ما لم يعرفوه، وجنوا من ثمر البغي ما مر، وكان ذلك جزاءً وفاقًا لما اقترفوه، فإنهم انحدروا بأهلهم وأولادهم إلى طرف تهامة، وتفرقوا فيها، وأتاهم من الله ما لم يحسبوه، فكثرت منهم الموتى، وفشت فيهم الأمراض، وعمهم الذهاب، حتى قيل أنهم لم يرجعوا بعد الأمان إلا تلف منهم ما يزيد عن الألف، وانتهبت أموالهم، وتناولت أيدي الاختطاف ثمارهم».
حفز ذلك الانتصار الإمام يحيى على استعادة جَبل مِلْحَان، وكلف قريبه أحمد بن قاسم حميد الدين بتلك المهمة، وعززه بقوات قبلية كثيرة، وقد توجه الأخير إلى تلك الناحية، وقاد من أطراف ناحيتي حفاش، والخبت هجومًا شاملًا 17 سبتمبر 1923م، وقد أكمل الـمُؤرخ محمد زبارة ذلك المشهد بقوله: «ولم تمر ساعات حتى تسنمت الأجناد الإمامية رأس هذا الجبل - يقصد مِلْحَان - وفر كل من فيه من أصحاب الإدريسي»، وما لم يعترف به ذات المُؤرخ أنَّ السيطرة النهائية على مِلْحَان لم تتحقق إلا بعد مدة غير يسيرة، وأنَّ المواجهات ظلت مُستعرة في أطرافها الغربية.
صحيح إنَّ القوات الإمامية استعادت السيطرة على مِلْحَان، إلا أنَّ روح التمرد والثورة لم تُغادر تلك الناحية، وكان لبعض أبنائها مُشاركة فاعلة في انتفاضة قبيلة صليل المُجاورة، التابعة لقضاء الزيدية فبراير 1929م ، والتي قادها الشيخ إبراهيم بن عبدالله القوزي، وهي الانتفاضة التي أجبرت السُلطات الإمامية على تسيير حملتين عسكريتين للقضاء عليها، حملة خرجت من الحديدة تحت قيادة محمد المُتوكل، وحملة خرجت من صنعاء تحت قيادة عامل ثلا عبدالله أبو منصر، وقد نجحت الأولى بعد حربٍ شرسة في استعادة السيطرة على الزيدية، فيما تكفلت الأخرى بضبط أمور مِلْحَان، وتوجهت بعد مرور ثلاثة أشهر، وبعد أنْ أتمت مهمتها لمُساندة السيف أحمد يحيى حميد الدين في حربه ضد ثورة الزرانيق.
* نقلا عن موقع 26 سبتمبر نت