"فلسطين وفارس العرب".. طبيعة تعامل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح مع قضية فلسطين
مثّلت القضية الفلسطينية بالنسبة للرئيس علي عبدالله صالح أهم مؤشرات تعاطياته الدولية، منذ بداياته وحتى آخر شربة ماء في حياته، كان من أبرز الداعمين لفلسطين، والمساندين لقواها وتنظيماتها، ولطالما تحدث عنها في خطاباته ومناسباته ومؤتمراته الدولية، وهذا ما جعل الفلسطينيين يطلقون عليه لقب "فارس العرب"، بلسان مروان البرغوثي، القيادي الفلسطيني والمعتقل السياسي في سجون إسرائيل.
في أحد لقاءات الشيخ أحمد ياسين، مؤسس وقائد حركة حماس، تحدث قائلًا: الرئيس علي عبدالله صالح يدعم القضية الفلسطينية، ويفهم القضية الفلسطينية، ويعي جيدًا ضرورة القوة في مواجهة العدو الإسرائيلي، ولقد سخّر للمقاومة إمكانيات كبيرة باليمن، واستوعب قياداتها ومقاوميها، وفي خطاباته يتصدر خطابنا وقدسية مقاومتنا للمحتل. وهنا يقول الكاتب اليمني هشام المشرمة في بعض إضافاته المهمة: قبل أن يشرب صالح شربة الماء الأخيرة في حياته، قال في خطابه الأخير: لقد وقفت مع القضية الفلسطينية، وكنت سندًا لها، جنبًا إلى جنب مع الشعب اليمني، تحية لك أيها الشعب الفلسطيني والسلام.
علي عبدالله صالح الذي استضاف أكثر من 5 آلاف مقاتل وقيادي فلسطيني مع عوائلهم، وأسس لهم معسكرين، أحدهما "صبرا" بالشمال في بلاد الروس مسقط رأسه، ومعسكر آخر "شاتيلا" بالجنوب اليمني، استضافهم عقب حرب لبنان عام 1982، في الوقت الذي رفض فيه جميع العرب استيعابهم، ثم منحهم معسكرًا وأسلحة وقدرات صناعية وتدريبية. وهذا بحد ذاته استثناء لا يحدث كثيرًا، لكنه القومي العربي، والعربي الصادق بعروبته وانتمائه وقوميته.
وبعد عدة سنوات تحدث عن الأمر عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، القيادي الفلسطيني عباس زكي، حين قال: اليمن بمواقفه معنا عام 82 جسد الكرامة والشهامة والصدق والوفاء، ولقد تمنيت أن يكون اليمن جاراً لفلسطين، فهو الوحيد الذي قدم لنا ما لم نكن نتخيله، ووقوفه إلى جانبنا كان أكثر بكثير مما يقال.
الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، مثّل أعظم المواقف العربية فيما يخص فلسطين. ذات مرة أجاب الرئيس صالح مع الرئيس علي ناصر محمد، على السوفييت الذين طالبوه بعدم منح الفلسطينيين السلاح الاستراتيجي، قائلًا: إذا لم أعطِ السلاح الاستراتيجي لفلسطين، فلست بحاجة إليه، فلسطين هي الشطر الثالث من اليمن. ومن ناحية متصلة، كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ينادي الرئيس صالح في كل خطاباته وكلماته ولقاءاته بـ "أخي ورفيق دربي"، ولطالما كررها وأعادها، في واحدة من أقرب العلاقات الأخوية بين زعيمين، علاقة متجاوزة للتكلف والرسميات والبروتوكولات، وطريقة واضحة عن صدق النوايا وصدق الأفعال.
الرئيس علي عبدالله صالح كان يمارس شكلين من التعاطي مع القضية الفلسطينية، من ناحية يصر على دعم المقاومة السياسية وتوحيد صفوفها، ومن ناحية موازية يؤكد ويدعم المقاومة المسلحة بالتدريب والعتاد. في العام 2007 شارك اليمن في حوار أجرته السعودية لإبرام اتفاقية تصالحية في مكة المكرمة بين فتح وحماس، بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوحيد المقاومة على الأرض. بعدها بعام، وبعد فشل اتفاق مكة، وقّعت حماس وفتح في صنعاء إعلان المصالحة الفلسطينية في الـ 23 من مارس 2008. وبعد عام من الإعلان، وفشل المصالحة، أعلن اليمن عن مبادرة جديدة لاستئناف الحوار بين السلطة الفلسطينية وقيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، من منطلق حرص اليمن على رأب الصدع في الصف الوطني الفلسطيني وتعزيز وحدته الوطنية، وبما يكفل مواجهة العدوان الإسرائيلي وإنهاء الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني. وقدم اليمن مبادرته في الكويت إلى قادة فتح وحماس وأيضًا إلى قادة كل من مصر وسوريا وتركيا باعتبارها الدول المقترحة لرعاية الحوار.
كل هذا العمل اليمني الدؤوب كان متزامنًا مع خطاب رسمي واضح ومتكرر، خطاب لم يتوقف الرئيس صالح عن إعادته في معرض كلامه بالقمم العربية والمحافل الدولية، خطاب تجريم إسرائيل، ووصفها بالصلف الصهيوني الغاشم، وبأنها لن ترحل إلا بالقوة، فما أُخذ بالقوة لا يعود إلا بالقوة، داعيًا إلى تأسيس جيش عربي واحد لمواجهة إسرائيل. هذا ما لا يمكن لأحد المزايدة عليه، أو حرفه، أو تزييفه للرأي العام اليمني والعربي والدولي.
لم يعبأ بإسرائيل
في كتابه الشهير، يروي الكاتب اللبناني فيصل جلول تفاصيل مهمة من حياة علي عبدالله صالح، يقول جلول: في شهر يناير من العام 1996، صادفت الرئيس علي عبدالله صالح في باريس، إثر حضوره دعوة رسمية من فرنسا لحضور قداس أخير وتوديع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. يومها تولدت في داخلي تساؤلات عديدة، كان أهمها: كيف استطاع علي عبدالله صالح، الرجل الذي بدأ حياته راعيًا للأغنام، ومن ثم جنديًا عاديًا، أن يحتل مقعدًا في الصفوف الأمامية بين زعماء العالم الكبار؟ توقفت كاميرات المصورين عند الوجوه البارزة في الكنيسة، وسلّطت أضواءها مرارًا على المستشار الألماني السابق هلموت كول، الذي كان يذرف دموعًا سخية على شريكه الأساسي في المشروع الأوروبي. وجالت على أفارقة وآسيويين، ونقلت ملامح وانفعالات زعماء عرب حضروا المناسبة، كان من بينهم الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، الذي نقل بلاده من هامش الأمم المنسية إلى صدارة المسرح الدولي، بعد غياب طويل جراء التقوقع على الذات في عهد الإمامة، والصراعات الأهلية المديدة، والانقلابات العسكرية المتتالية في العهد الجمهوري.
كادت المناسبة أن تمر بلا حدث مثير للجدل لولا انهماك وسائل الإعلام بنقل رواية من قصر الإليزيه عن اجتماع مزعوم بين علي عبدالله صالح وشيمون بيريز، الرئيس الإسرائيلي الراحل، وأن اللقاء تم خلال احتفال أقامه مساء اليوم نفسه الرئيس جاك شيراك على شرف الضيوف الذين حضروا القداس الصباحي. تحدثت الرواية التي سرّبتها السفارة الإسرائيلية في باريس عن مصالحة يمنية ـ إسرائيلية، وعن إشاعات عامة بتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، وقيل إن اليمن هو البلد العربي الأبرز في شبه الجزيرة العربية الذي سيكسر حاجز العزلة حول إسرائيل.
عاد الرئيس اليمني من كوكتيل الإليزيه إلى فندق الـ “ريتز” المطل على ساحة “فاندوم” التاريخية في العاصمة الفرنسية. كان بوسعه أن يشاهد من جناحه الخاص تمثالًا لنابليون بونابرت يتوسط الساحة، معتليًا رأس مسلة صنعت من نحاس 1200 مدفع غنمها الإمبراطور الفرنسي من معركة “أوستيرليتز” التي بسطت فرنسا من بعدها سيطرتها على أوروبا القارية لعقد من الزمن.
ما أن اجتاز عتبة جناحه حتى نقل إليه أحد المرافقين خبر الإليزيه. بدا علي عبدالله صالح غير عابئ بما أذيع، واكتفى بالإشارة إلى مساعده عبده بورجي لتوزيع نفي رسمي للرواية عبر وسائل الإعلام. وشرح لقلة من الحاضرين، بينهم الدكتور عبد الكريم الإرياني، والدكتور محمد سعيد العطّار، والأستاذ محمد اليدومي، الوجه البارز لـ”الإخوان المسلمين” في اليمن، وكاتب هذه السطور، أن الأمر اقتصر على مصادفة بروتوكولية باردة من دون شيء مما قيل. بعد ذلك، انتقل صالح للحديث عن مسلة “فاندوم” وعن كنيسة “نوتردام”، وسألني عن تاريخ بنائها وعن السبب الذي حمل الفرنسيين على اعتماد أشعة الليزر في ترميم واجهاتها الحجرية وتماثيلها المذهلة.