دم افتِهان المشهري ليس دم موظفة عامة بل دم مدينة كاملة تُستنزف أحلامها بالتدريج
مصطفى محمود*
ما زلت أتذكّر جيّدًا ما قاله لي محافظ تعز شمسان قبل سنوات في معرض حديثنا عن شئون تعز وهو مبتسم بمرارة، أخي الحبيب، (أن تكون محافظًا لتعز فأنت تعيش في قلب ساحة مواجهة مفتوحة. هنا تتحوّل النزاهة إلى لعنة، ويُصبح كلُّ من يتجرأ على الوقوف في وجه منظومة الفساد والعنف مرشّحًا لأن يُدرَج في "قائمة الموت غير المكتوبة). «اليوم فقط وعيت دلالة هذه المقولة ووصلني إحساس عميق بمعاناة قائلها».
جريمة اغتيال افتهان المشهري اليوم تكشف أن تعز ليست عاجزة عن حماية مسؤوليها فحسب، بل عاجزة عن حماية معنى المدينة ذاته. الفاعلون المسلحون غير النظاميين بتعدد ولاءاتهم ومصالحهم، تحوّلوا إلى سلطة ظل موازية للسلطة المحلية ومهيمنة عليها، وفي ظل صمت النخب، وفشل المؤسسات المعنية، يصبح القتل أداة "إدارة سياسية" لفرض النفوذ وترهيب الخصوم، بينما تُختطف الدولة من قلبها.
اغتيال افتِهان المشهري، مديرة عام النظافة والتحسين في تعز، لم يكن جريمة جنائية عابرة، بل تجلٍّ صارخ لبنية الفوضى التي تحكم المدينة، فالمرأة التي كرّست جهودها لتنظيف الشوارع وتجميل الأحياء وتنظيم حياة الناس، كانت ضحية مدينة تُساق نحو القبح بقوة السلاح وغياب الأجهزة المسؤولة عن أمن المدينة وسلامة المجتمع.
تعز اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة بالحرب ومجتمع منهك من الحصار والحرب؛ إنها مدينة مفرغة من الضمانات الأساسية للحياة. من يختار أن يخدمها في المجال العام يصبح هدفاً للسلاح المنفلت هنا لاحرمة لرجل أو امرأة، الكل واحد، رهينةً لصراعات لا ترحم.
إن دم افتِهان المشهري ليس دم موظفة عامة، بل دم مدينة كاملة تُستنزف أحلامها بالتدريج، ويُقتل مستقبلها مع كل رصاصة طائشة أو مخطط اغتيال متعمد.
إن السؤال الآن ليس عن القاتل المباشر فحسب، بل عن البنية التي صنعت هذا القاتل، وعن النظام السياسي والأمني الذي ترك تعز تتحول إلى ساحة إعدام في تصفية الحسابات.
النداء الأخير: على الشرعية أن تتحمل مسؤوليتها في فرض الأمن واستعادة هيبة الدولة، وإلا فإنها شريكة في كل دم يسيل. وعلى أهالي تعز أن يدركوا أن صمتهم يغذي القتلة، وأن حماية مدينتهم تبدأ من موقف جماعي يرفض التبرير ويكسر الخوف. فإما أن تنتصر تعز للحياة، أو تواصل سقوطها في دوامة موت بلا معنى....
السلام عليك في الملأ الأعلى أيتها الشهيدة المجيدة
ــــــــــــــــــــــــــــ
*المستشار السياسي لمحافظة تعز