التحول في الخطاب الجمهوري.. العنصرية بدلاً من الطبقية

همدان العليي

في عام 2018، ألقيت كلمة عن البُعد العنصري في الفكر الحوثي، وذلك أمام ممثلي دول العالم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مدينة جنيف السويسرية. كانت هي المرة الأولى التي يُشار فيها بوضوح إلى العنصرية السلالية المتعلقة بخرافة "آل البيت" و"الولاية" لدى جماعة الحوثي، وأمام ذلك الجمع الدبلوماسي الرفيع.

يومها شعرت بأني حققت إنجازًا عظيمًا، رغم عدم وجود أي أثر ملموس لتلك الكلمة القصيرة التي كانت ضمن عدد كبير من الكلمات حول الوضع الإنساني والحقوقي في أنحاء مختلفة من العالم.

لكن لماذا اعتبرت ذلك إنجازًا؟

لا أشير إلى تلك الكلمة "كفتح تاريخي"، لكني كنت أؤمن بأهمية نقل الخطاب اليمني الذي يواجه الحوثيين من الطرح السياسي العام إلى اللغة القانونية المركزة التي يفهمها العالم.

سبق أن وُصفت الجذور الفكرية الحوثية مبكرًا بالعنصرية، لكن في كتابات ومداخلات محلية محدودة جدًا، ولهذا فإن اعتبار هذه الفئة عنصرية في محفل أممي يخرج الخطاب الجمهوري من إطاره السياسي الذي تعامل مع نكبة 21 سبتمبر 2014 بوصفها انقلابًا على السلطة المنتخبة، أو اعتبار حرب اليمنيين حربًا طائفية، إلى تحديد مشكلة اليمنيين مع هذا المشروع بدقة، وهي رفض الشعب اليمني المستمر للعنصرية السلالية. وهذا ما يساعد المجتمع الإقليمي والدولي على فهم دوافع اليمنيين لرفض التعايش مع فكر الحوثيين، ويساعد على تجريم هذه الجماعة ومساءلة المتورطين بارتكاب الجرائم ورفض أي جهود لشرعنة الهيمنة العنصرية.

قيمة هذه الخطوة - بلا شك - تراكمية وتكاملية وليست فورية أو فردية، لأن هذه التسمية تمنح الضحايا لغة وفرصة قانونية يستطيعون من خلالها الدفاع عن أنفسهم وعن حقهم في المساواة، باعتبار هذا الحق هو الأول في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لماذا أتحدث عن هذا الموضوع اليوم؟

قبل أيام، أعدت نشر مقال قديم يشير إلى أن ثورة 26 سبتمبر الخالدة كانت في الأصل ضد العنصرية، وليست فقط ضد الاستبداد والفقر والظلم بمفهومه العام. حينها علق أحد الأصدقاء بالقول: إذا كانت هذه الثورة اليمنية ضد العنصرية، فلماذا لم يذكر الثوار ذلك؟ ولماذا لم تُشر أهداف الثورة إلى العنصرية؟ وهذه أسئلة بحاجة إلى إجابة فعلًا.

ثورة 26 سبتمبر، أكثر من مجرد انتقال سياسي، بل كانت تغييرًا جذريًا أعاد مسألة الحكم إلى اليمنيين باعتبارها مسألة بشرية، بعدما كانت الإمامة قد رفعتها إلى السماء وادعت أن الله قد اختار "آل البيت" و"الهاشميين" لحكم اليمنيين والتسيد عليهم وامتلاك رقابهم، وهذا يعني استعبادهم إلى يوم القيامة.

دوّن الثوار أهداف الثورة، وكان أول هدف هو: "التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات".

كانت ثورة اليمنيين في جوهرها ضد العنصرية السلالية، لكن الأحرار غلفوها بـ"إزالة الامتيازات والفروقات الطبقية" التي تجلب الاستبداد والظلم، وذلك انسجامًا وتماشيًا مع الخطاب القومي السائد في تلك الفترة.

كما رأى بعض الثوار أن عبارة "عنصرية" قد تُفهم في سياق مختلف يسهل على الإماميين في تلك المرحلة تحريض عامة الناس ضد الثورة نظرًا لانتشار الفقر والجهل. مع العلم أن الشهيد المُعلم محمد محمود الزبيري كان قد وصف حكم الأئمة بـ"العنصري" في "مأساة واق الواق" حين قال: "يريد هذا وذاك أن يقطعا شعب هذه الأرض تقطيعًا ثانيًا باسم المذاهب الدينية، وتقطيعًا ثالثًا باسم السلالات العنصرية".

كذلك في كتابه *الإمامة وخطرها على وحدة اليمن*، حين قال: "إن الذين يؤمنون بالعنصرية هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب". أما الشهيد علي عبدالمغني، بطل الثورة والجمهورية، فقد ذكر مفردة "العنصرية" في أهداف الثورة التي كتبها بخط يده، وتحديدًا في الهدف الخامس، والذي جاء فيه: "القضاء على الخلافات العنصرية والقبلية والمذهبية المختلفة".

إذن، ثوار 26 سبتمبر كانوا يعرفون أن جوهر المعاناة اليمنية جراء ظلم فئة تدّعي الحق الإلهي والتمييز السلالي، لكنهم لم يستخدموا مصطلح "عنصرية" بهذا اللفظ الصريح في أغلب أدبيات الثورة لأسباب مختلفة، من أهمها:

▪️الخطاب القومي الثوري العربي في بعض الدول العربية مثل مصر وسوريا والعراق وغيرها كان يركز على مفردات بعينها مثل: الاستبداد، الاستعمار، الرجعية، الإقطاع، الطبقية، وغيرها من المفاهيم المألوفة لدى الجماهير العربية.

▪️ كلمة "عنصرية" لم تكن مستخدمة في الخطاب العربي السياسي في تلك المرحلة كما هي اليوم، وغالبًا ما كانت تُستخدم لوصف سياسة الاستعمار.

▪️ تجنّب بعض الثوار استخدام عبارة "ضد العنصرية السلالية"، كي لا يتم استغلال الجهل المنتشر في تلك الفترة لتقديم الثورة على أنها ضد الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا اختاروا صيغة أكثر دبلوماسية: "إزالة الفوارق الطبقية"، لتبدو عامة وشاملة وتحقق ذات الهدف.

▪️ الثورة كانت بحاجة إلى دعم داخلي وخارجي، وتقديمها كثورة ضد الاستبداد والإقطاع والطبقية يجعلها مفهومة ومقبولة عربيًا، بينما مصطلح "العنصرية" لو استُخدم في تلك المرحلة لاستغله الخصوم للطعن في دوافع الثوار، لا سيما أن عملية إثبات عنصرية الأئمة كانت تواجه صعوبة في تلك الفترة.

على الرغم من استخدام مفردة "العنصرية" لوصف سلوك الأئمة في بعض كتابات الأحرار في تلك الفترة، إلا أنه كان من الصعب استخدام هذه المفردة على نطاق واسع لأسباب تتعلق بطبيعة الإمامة، وانتشار الجهل، ومحدودية الأدوات المتاحة.

في تلك الفترة كان يصعب رصد الأشكال والممارسات التمييزية العنصرية بشكل منهجي، أما اليوم فيسهل ذلك. إضافة إلى ذلك، المواثيق والقوانين الدولية التي تُعرّف وتُجرّم العنصرية وتبين أشكالها جاءت قبل الثورة بسنوات قليلة وبعضها بعدها مباشرة (أواخر الأربعينات إلى منتصف الستينات)، ولم تكن مفاهيمها قد انتشرت وترسخت في الخطاب العام العربي بشكل عام، وليس لدى النخبة اليمنية فحسب.

اليوم يمكن إثبات عنصرية الإمامة بشكل مفصل من خلال الرجوع إلى القوانين اليمنية المحلية، والقوانين والاتفاقيات الدولية التي تشمل التمييز على أساس النسب والسلالة أو العرق، وتتيح إمكانية المحاسبة.

اليوم كذلك يمكن رصد العنصرية الحوثية متلبسة عبر التوثيق الرقمي لممارساتهم التمييزية ضد اليمنيين، وكلماتهم ومؤلفاتهم ومناهجهم الدراسية وفتاوى مراجعهم الدينية وتعييناتهم داخل المؤسسات، والكثير من الوسائل التي تجعل وصف الحوثيين وأجدادهم الأئمة بالعنصريين حقيقة ماثلة على الأرض، لا مجرد شعار سياسي يصعب إثباته أو قياسه.

في الحقيقة، إن مفردة "العنصرية" أكثر دقة لوصف سلوك وفكر الحوثيين والإمامة بشكل عام من "الطبقية".

العنصرية هي تمييز أو تفضيل يقوم على أساس الأصل السلالي أو العرقي أو اللون أو المنطقة أو الدين أو القومية وغيرها، وبناءً على هذا التفضيل يُمنح المنتمي لهذه الفئة مصالح ومكاسب وامتيازات بناءً على الميلاد وليس الكفاءة. أي أن هذا الامتياز ثابت لا يتغير ومحصور بالميلاد أو الجينات أو المنطقة أو اللون أو الدين. مع العلم أن العنصرية مجرمة في الصكوك والاتفاقيات الدولية وفي قوانين أغلب الدول.

أما الطبقية فهي تفاوت اجتماعي واقتصادي بين فئات في المجتمع نتيجة الثروة أو التعليم أو المهن أو النفوذ، وهذا ينتج عنه اختلاف في الفرص والموارد. لكن يمكن التحول من طبقة إلى أخرى بعكس العنصرية. وفي الغالب تُعالج الطبقية عبر سياسات الدولة وبواسطة تعزيز العدالة الاجتماعية، وليس بالتجريم المباشر كالعنصرية.

ومن المهم التأكيد على أن العنصرية السلالية تجعل العِرق معيارًا للتفاضل، وهذا ينتج طبقات داخل المجتمع الواحد. ولهذا يمكن القول بأن "الطبقية" وثقافة ازدراء المهن هي واحدة من نتائج العنصرية السلالية في اليمن.

في الأخير، أدعو كل اليمنيين إلى التأكيد على عنصرية الحوثيين والفكر الإمامي بشكل عام، والمطالبة بتجريمها، باعتبار ذلك الخطوة الأهم لتحقيق السلام الدائم والعادل في اليمن، وإنهاء قرون من الحرب والمعاناة بسبب التمييز السلالي العنصري.