ثقافة التعذيب الممنهج.. كيف تحوّل التعليم في اليمن إلى ساحة قهرٍ للمعلمين؟

في الوقت الذي يحيي فيه العالم يوم المعلم العالمي الذي يصادف 5 أكتوبر من كل عام، ترجمةً للمكانة التي يحظى بها المعلم في معايير الاهتمام الحكومي والاحترام المجتمعي، وتقديراً لجهوده ودوره، تحوّل التعليم في اليمن من أملٍ يُعوَّل عليه نحو مستقبلٍ أفضل إلى ساحة صراع جديدة، حيث يُعاني المعلمون من انقطاع الرواتب منذ سنوات، وسط انهيارٍ اقتصاديٍّ خانقٍ وصمتٍ رسميٍّ مريب.

وهذه المعاناة ليست حِكراً على مناطق سيطرة مليشيا الحوثي فقط، بل تمتد – وإن بدرجات متفاوتة – إلى المناطق المحرّرة، ما يضع مستقبل التعليم في البلاد على حافة الهاوية.

ورغم أن المناطق المحرّرة يُفترض أن تكون “نموذجاً أفضل” في الإدارة والدعم، إلا أن المعلمين يواجهون شحّ الرواتب وتأخّر صرفها، حيث تصاعدت الاحتجاجات في محافظات مثل عدن، حضرموت، الضالع، وتعز، تنديداً بتأخر الرواتب وغياب التسويات العادلة.

تسويف حكومي

أفادت مصادر تربوية في وزارة التربية والتعليم بالعاصمة المؤقتة عدن لوكالة "خبر"  بانقطاع رواتب المعلمين للشهر الرابع على التوالي، مشيرةً إلى تكرار مثل هذه الانقطاعات، بالإضافة إلى عدم انتظام الصرف في فترات أخرى، رغم أن الرواتب لم تعد تغطي أبسط الاحتياجات الأساسية.

فعلى الرغم من استقرار سعر صرف الدولار نسبياً في المناطق المحرّرة عند 1619 ريالاً يمنياً بعد أن كان قد تجاوز حاجز 2800 ريال، تدهورت القيمة الشرائية للراتب الشهري، الذي يبلغ في المتوسط 60 ألف ريال، ليصبح لا يعادل سوى 40 دولاراً فقط، بعد أن كان قبل الحرب يتجاوز 270 دولاراً بسعر صرف 220 ريالاً للدولار الواحد.

وأكدت المصادر أن تسويف الحكومة في صرف هذه الحقوق البسيطة، رغم مطالبات المعلمين بتسوية رواتبهم على الأقل وفق القيمة التي كانت عليها قبل الحرب كأبسط الحقوق، أدّى إلى انعدام الثقة بين الطرفين، الأمر الذي انعكس سلباً على جودة التعليم، وفقاً لدراسات بحثية.

يأتي ذلك في ظل تصعيد تربوي متزايد في عدد من المحافظات، أبرزها حضرموت، تزامناً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تضاعفت بفعل الحرب المستمرة منذ انقلاب ميليشيا الحوثي على الدولة في 21 سبتمبر 2014، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات أكثر من 14 ضعفاً عمّا كانت عليه قبل الحرب.

وذكرت مصادر اقتصادية أن هذا الانهيار انعكس مباشرةً على حياة المواطنين والموظفين، ومن بينهم شريحة المعلمين، إذ أصبح معظمهم عاجزين عن تأمين احتياجات أسرهم الأساسية، في ظل غياب الرعاية الاجتماعية وارتفاع تكاليف المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة.

ثقافة التعذيب الممنهج

غياب الرعاية والاهتمام بحقوق المعلم، أفرز تداعيات خطيرة على العملية التعليمية. فبحسب دراسة ميدانية كانت أجرتها وكالة "خبر"، فإن المعلم الذي يعيش تحت وطأة الانهيار النفسي والضغوط المعيشية لم يعد قادراً على أداء رسالته التربوية كما يجب، إذ بات تفكيره منصبّاً على كيفية تأمين لقمة العيش، لا على تطوير مهارات تلاميذه.

وتشير مصادر في نقابات المعلمين إلى أن المعلم، الذي يُفترض أن يكون محور بناء المجتمع، صار في بعض الحالات ضحية "ثقافة التعذيب الممنهج" – من تأخير الرواتب إلى التهديد والضغط – ما أدى إلى فوضى تعليمية وضعفٍ في التحصيل العلمي.

هذا الواقع ألقى بظلاله على جودة التعليم، وتسبب في تزايد معدلات التسرب المدرسي وتراجع التحصيل العلمي لدى الطلاب، ليصبحوا أكثر عرضةً للاستقطاب من الجماعات المتشددة أو لدخول سوق العمل المبكّر، حيث يُستغلّ الأطفال في أعمالٍ شاقة لتغطية احتياجات أسرهم.

وأشار تقرير سابق لمنظمة IPNED إلى أن أكثر من 44% من أولياء الأمور أكدوا أن السبب الرئيسي لتسرّب أبنائهم من المدارس هو الحاجة إلى المساعدة المادية للأسرة.

تقسيم عنصري للموظفين

في المناطق الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية، تتفاقم معاناة المعلمين أكثر، وسط ضغوطٍ نفسية وجسدية قاسية، إذ تعمل الجماعة على تجريف مؤسسات الدولة وإحلال عناصرها بدلاً عن الموظفين الأصليين.

ويؤكد نادي المعلمين انقطاع رواتب المعلمين لأكثر من ثماني سنوات، قبل أن تعلن المليشيا عن آليةٍ لصرف نصف راتب، ورغم ذلك بصورة غيرة منتظم، اعتمدت فيها تقسيم الموظفين إلى فئات (أ، ب، ج) في تقسيمٍ عنصريٍّ واضح.

وبحسب "مركز صنعاء للدراسات" وتقارير ميدانية، فإن أكثر من 170 ألف معلم في مناطق سيطرة الحوثيين توقفت رواتبهم منذ السنوات الأولى للنزاع، فيما تُصرف رواتب آخرين بشكلٍ متقطّع على فتراتٍ ربع سنوية فقط.

وقد دفع هذا الانقطاع الطويل عدداً كبيراً من المعلمين إلى ترك المهنة أو البحث عن أعمالٍ بديلة، مثل قيادة سيارات الأجرة أو العمل في المهن الحرة لتأمين احتياجات أسرهم.

الإضراب يُقابَل بالاختطاف

ومع أن الإضراب يبقى الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام المعلمين للمطالبة بحقوقهم، إلا أنه بات يُواجَه بالقمع والاختطاف، خصوصاً في مناطق سيطرة الحوثيين، بحسب شهاداتٍ محلية وتقارير حقوقية دولية.

ورغم أن بعض الحكومات والمؤسسات أعلنت نيتها رفع رواتب المعلمين ومنحهم مزايا إضافية، فإن التنفيذ الميداني ظل محدوداً، حيث أصدر رئيس الوزراء في الحكومة الشرعية خلال العام الجاري، توجيهاً بصرف رواتب المعلمين قبل غيرهم من الموظفين، لكن هذه التوجيهات لم تُنفَّذ حتى الآن.

وتؤكد نقابات المعلمين أن الأزمة لم تعد مهنية فحسب، بل تحوّلت إلى قضية وطنية تمسّ مستقبل اليمن، محذّرةً من فقدان رأس المال البشري وتحويل الأجيال القادمة إلى شبابٍ بلا أمل ولا معرفة.

وتطالب النقابات بإطلاقٍ فوري لصرف الرواتب المتأخرة وتعويض المعلمين، مع إصلاح آليات الدفع لتكون مستقلة عن التجاذبات السياسية، وضمان العدالة لجميع المعلمين دون تمييزٍ جغرافي أو سياسي.

كما تدعو إلى ربط الأجور بمؤشرات التضخم لحماية قوتها الشرائية، وتأمين المعلمين من الملاحقة والعنف، باعتبار ذلك جزءاً من حماية حرية التعبير والمطالبة بالحقوق.