كيف حول الحوثيون مليارات أوقاف إب من إدارة الخير إلى إمبراطورية فساد؟ (تقرير)
تعد محافظة إب واحدة من أغنى محافظات اليمن في ممتلكات وأموال الأوقاف العامة، إذ تمتلك مئات العقارات والمزارع والدكاكين والأراضي الوقفية داخل المدينة وخارجها، وتُقدّر إيراداتها السنوية بمليارات الريالات. غير أن هذه الثروة الضخمة تحولت في ظل سيطرة ميليشيا الحوثي إلى مصدر تمويل مركزي للجماعة، وسط فساد إداري ومالي غير مسبوق وهيمنة مطلقة على إدارة مكتب الأوقاف في المحافظة.
ثروة وقفية ضخمة وإدارة مغلقة
تاريخياً، كانت أوقاف إب تمثل أحد أهم الموارد المحلية التي تمول الأنشطة الدينية والاجتماعية والخيرية، وتغطي احتياجات عشرات المساجد والمدارس والمراكز الدينية. وكانت إيراداتها تُصرف في مجالات البر والمعسرين والإعمار والتعليم، وتُدار عبر لجان محلية تشرف عليها وزارة الأوقاف والإرشاد في الحكومة اليمنية قبل الحرب.
لكن منذ سيطرة الحوثيين على المحافظة في العام 2014، تغير كل شيء. فبحسب مصادر محلية، وضعت مليشيات الحوثي يدها بالكامل على مكتب الأوقاف في إب، وعينت مشرفين تابعين لها بدلاً عن الكوادر الرسمية، وأخضعت عملية التحصيل والتوريد لإشراف مباشر من قبل ما تسمى "الهيئة العامة للأوقاف" في صنعاء.
توريد مركزي لصنعاء... وحرمان محلي
تؤكد المصادر أن جميع إيرادات أوقاف إب تُورّد حالياً إلى صنعاء بشكل مركزي، ضمن سياسة مالية جديدة فرضها الحوثيون على فروع الهيئة في المحافظات الواقعة تحت سيطرتهم، بحيث لا يُسمح لمكاتب الأوقاف المحلية بالتصرف بأي جزء من العائدات حتى في أبسط أعمال الصيانة أو الأنشطة الخيرية.
وقال أحد الموظفين السابقين في مكتب أوقاف إب، في حديث لوكالة خبر، إن المكتب يجمع شهرياً مبالغ ضخمة من إيجارات العقارات الوقفية المنتشرة في قلب المدينة وأطرافها، فضلاً عن عائدات المزارع الوقفية، لكنها لا تُصرف في إب إطلاقاً.
وأضاف: كل الإيرادات تُنقل إلى حسابات الهيئة العامة للأوقاف في صنعاء، وهناك يتم توزيعها بطرق غير معلنة، وغالباً لصالح مشاريع تخدم الجماعة أو أنشطتها السياسية والدينية.
شبكة فساد محكمة
تشير تقارير محلية إلى وجود شبكة فساد واسعة داخل مكتب الأوقاف في إب، يقودها مشرفون حوثيون ومسؤولون جدد من خارج المحافظة تم تعيينهم بقرارات من صنعاء.
هذه الشبكة –بحسب المصادر– تتولى تأجير العقارات الوقفية بأسعار زهيدة لأقارب قيادات حوثية، أو تحويل ملكيتها بشكل غير قانوني عبر عقود صورية.
كما يتم، وفقاً لشهادات متطابقة، ابتزاز المستأجرين القدامى وإجبارهم على دفع مبالغ إضافية تحت مسمى إعادة التقييم، وفي حال الرفض تُسحب منهم العقارات بالقوة.
قال أحد المستأجرين السابقين لأحد المحال الوقفية في إب: كنا ندفع الإيجار الرسمي للمكتب، لكنهم أجبرونا لاحقاً على توقيع عقد جديد مع أحد المشرفين الحوثيين بسعر مضاعف، ثم طُردنا بعد عام واحد دون سبب.
انهيار الدور الخيري والإنساني
انعكست ممارسات الفساد والنهب على الدور الإنساني للأوقاف في المحافظة، حيث توقفت معظم المشاريع الخيرية التي كانت تمول من عائدات الوقف، مثل كفالة الأيتام، ودعم طلاب العلم، وصيانة المساجد القديمة.
ويقول أحد خطباء المساجد في المدينة: لم يعد مكتب الأوقاف يهتم بترميم المساجد أو دفع فواتير الكهرباء والمياه كما كان سابقاً. كل ما يهمهم اليوم هو جمع الأموال وتوريدها لصنعاء.
وأشار إلى أن العديد من المساجد التاريخية في إب، مثل الجامع الكبير وجوامع مدينة جبلة ومساجد كثيرة في مختلف المديريات، تعاني من تصدعات وإهمال شديد في غياب أي مخصصات مالية للصيانة.
هيمنة سلالية على مفاصل الأوقاف
منذ إنشاء ما تسمى "الهيئة العامة للأوقاف" التابعة للحوثيين في صنعاء عام 2021، بدأت حملة ممنهجة للسيطرة على ممتلكات الوقف في عموم المحافظات. وفي إب، جرى استبدال أكثر من 80% من الكوادر القديمة بعناصر حوثية ذات خلفية مذهبية وسلالية.
هذه التعيينات – بحسب موظفين سابقين – لا تتم وفقاً للكفاءة أو المؤهلات، بل عبر الولاء الطائفي السلالي للمليشيا ما جعل المكتب يتحول إلى بؤرة فساد وولاء سلالي مغلق.
كما أفاد موظفون بأن بعض القيادات الحوثية عينت أقاربها كمستأجرين رسميين في عقارات وقفية بمواقع تجارية مميزة في إب، لتصبح تلك الممتلكات عملياً "مملوكة" لهم دون وجه حق.
المليارات المفقودة
لا توجد أرقام رسمية منشورة حول حجم الإيرادات السنوية للأوقاف فى إب وذلك لسعي مليشيا الحوثي تغييب ذلك عن الإعلام خلال الأعوام الأخيرة، كونها مبالغ طائلة بالمليارات لكن تقديرات اقتصادية محلية تشير إلى أن قيمتها تتجاوز مليارات الريالات سنوياً، بالنظر إلى حجم الممتلكات الوقفية في المدينة والمناطق التابعة لها.
وتقول المصادر إن جزءاً كبيراً من هذه الأموال يُستخدم في تمويل الفعاليات والمناسبات الدينية التي تنظمها مليشيات الحوثي، مثل المولد النبوي، ويوم الولاية، والأنشطة التعبوية في المدارس والمساجد، فيما يُنفق الجزء الآخر كمكافآت ومخصصات لمشرفين وقيادات حوثية في صنعاء.
صوت الشارع... غضب وصمت
يرى ناشطون في إب أن ما يحدث هو عملية نهب منظّم لثروة وقفية كان يُفترض أن تعود بالنفع على المجتمع المحلي، متهمين الحوثيين بتحويل أموال الوقف إلى أداة تمويل سياسي وديني.
ويقول الناشط الحقوقي (م. العزي): يلتزم مسؤولو مكتب الأوقاف الصمت، ويرفضون الإدلاء بأي تصريحات للصحافة، وسط مخاوف الموظفين من الملاحقة في حال تسريب المعلومات.
وما بين المليارات المتدفقة من أوقاف إب، والفقر الذي يخيّم على سكانها، تتجلى المفارقة الكبرى: موارد ضخمة تُجمع باسم الدين والخير، لكنها تُهدر في جيوب الفساد وتُحول إلى سلطة سلالية تفرض وصايتها باسم الولاية.
وبينما تُغلق ملفات الوقف في أدراج صنعاء، يظل السؤال معلقاً في أذهان الناس إلى أين تذهب أموال الله في زمن المليشيا؟