إب.. كرامة الموتى في مهب الريح وأموال الأوقاف ترحل إلى صنعاء وصعدة
تعيش مقابر محافظة إب واحداً من أسوأ مواسم الإهمال في تاريخها الحديث، رغم أن المحافظة كانت تُعد الأولى على مستوى اليمن من حيث حجم الأوقاف وعائداتها المالية. اليوم، تبدو هذه المقابر كفضاء منسي، تختنق بالأعشاب المتوحشة ومخلفات الحيوانات وأكوام النفايات، في مشهد يلخص حجم الانهيار الإداري والمؤسسي الذي يضرب مؤسسات الدولة الخاضعة لسلطة مليشيات الحوثي.
وسط هذا التدهور، يقف مكتب الأوقاف –الجهة المعنية أولاً بهذا الملف– كمتفرج صامت، رغم الإيرادات الضخمة التي يجنيها شهرياً، والتي كان يفترض أن تُخصص لصيانة المقابر وحماية حرمتها.
فاجعة القبور..
تفاقمت أزمة المقابر في إب خلال السنوات الأخيرة حتى امتلأت كثير منها بالكامل، مما اضطر الأهالي إلى دفن موتاهم بطرق عشوائية تفتقر لأبسط شروط الكرامة الإنسانية. مقابر أخرى تآكلت حدودها، واندثرت معالم القبور فيها إلى درجة يصعب معها التعرّف على مواقع الدفن القديمة.
ورغم عشرات الشكاوى والمناشدات التي يقدمها المواطنون، لا يزال مكتب الأوقاف يتعامل مع الملف بقدر كبير من اللامبالاة، دون أي تحرك جاد أو خطة صيانة توازي حجم المأساة. هذا التقاعس فاقم الغضب والسخط الشعبي، إذ باتت كرامة الموتى رهينة حسابات مالية وإدارية بعيدة كل البعد عن مسؤوليات المكتب الشرعية والإنسانية.
رحلة الإيرادات إلى صعدة وصنعاء
تُعد إيرادات مكتب الأوقاف في محافظة إب من الأعلى على مستوى المحافظات الخاضعة لسيطرة المليشيات الحوثية، إذ يتحصل المكتب ملايين الريالات شهرياً من الإيجارات والعقارات والأسواق الوقفية.
لكن المفارقة أن الجزء الأكبر من هذه الأموال يُحوّل بشكل مركزي إلى سلطة الانقلاب الحوثي في صنعاء وصعدة، وفقاً لما أكده لوكالة خبر مصدر خاص في البنك المركزي اليمني فرع إب. نتيجة لذلك، بات المكتب المحلي شبه عاجز عن تمويل أبسط أعمال الصيانة للمقابر أو المساجد.
وبحسب مصادر محلية، فإن ما يُصرف فعلياً على صيانة المقابر لا يتجاوز الفتات –إن وُجد أصلاً– في حين تدفع المحافظة كلفة التدهور الشامل لممتلكات الوقف.
الأخطر أن هذا العجز المفتعل ترافق مع ارتفاع غير مسبوق في تكلفة الدفن، حيث وصل سعر القبر الواحد في مدينة إب إلى خمسين ألف ريال، وهو مبلغ يفوق قدرة كثير من الأسر الفقيرة، التي باتت تلجأ للبحث عن أماكن دفن بعيدة أو غير لائقة.
"روضات" قتلى الحوثي مزدهرة والمقابر العامة في النسيان
في مقابل الإهمال الكارثي للمقابر العامة، تحظى ما تسمّى بـ"روضات الشهداء" التابعة للمليشيات الحوثية باهتمام كبير من حيث النظافة والتشييد والتجميل، وتوفير الحماية والخدمات، وإجراء الصيانة الدورية، إضافة إلى تنظيم فعاليات مستمرة داخلها.
هذا التفاوت الفادح في المعاملة يكشف بوضوح منهجية تمييز سلالي وفئوي تُقدَّم فيه المقابر الخاصة بقتلى الحوثيين على حساب المقابر العامة التي تضم رفات عامة الناس.
لم يعد الأمر مجرد قصور إداري، بل تحوّل إلى مؤشر خطير على تسييس ملف الموتى واستغلال أموال الأوقاف لخدمة فئة محددة، في انتهاك صريح لقيم العدالة والإنصاف وحرمة الوقف.
أسئلة مفتوحة
مع تفاقم هذا الواقع المأساوي، تتوالى الأسئلة في أذهان أبناء المحافظة:
متى تستعيد مقابر إب مكانتها وكرامة موتاها؟
ومتى ستعود إيرادات الأوقاف إلى هدفها الأصلي بدلاً من تحويلها لتمويل مشاريع خارج المحافظة؟
ومن يحاسب الجهات التي تترك المقابر نهباً للعشوائية والاعتداءات رغم أنها تجني ملايين الريالات من مال الوقف؟
تزداد هذه التساؤلات حدّة في ظل وجود فساد إداري ومالي داخل مكتب الأوقاف بالمحافظة، وهيمنة وتسلط قيادات حوثية تتحكم بشكل مباشر في الإيرادات والقرارات.
ما يحدث في مقابر إب لم يعد مجرد قضية خدمية مؤجلة؛ بل أصبح ملف فساد مكشوفاً يستحق احتجاجاً شعبياً واسعاً ومساءلة حقيقية لكل من يقفون وراء هذا الانهيار المتعمّد لقطاع يمس أقدس ما يملكه الإنسان: كرامته بعد الموت.