ملف الأسرى في اليمن.. حين تتحول الإنسانية إلى أداة ابتزاز سياسي
في كل مرة يُعلن فيها عن اتفاق جديد لتبادل الأسرى في اليمن، تتجدد آمال آلاف العائلات المنهكة بالانتظار، ويبدو المشهد وكأنه اختراق إنساني في جدار الحرب الطويلة، غير أن هذه اللحظات العابرة سرعان ما تنكشف حقيقتها حين نعود إلى قراءة السلوك الحوثي لا البيانات المعلنة.
فميليشيا الحوثي، منذ انقلابها على الدولة، لم تتعامل مع ملف المختطفين بوصفه قضية إنسانية أو التزاماً أخلاقياً، بل حولته إلى أداة مركزية من أدوات السيطرة والضغط والمقايضة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، في نمط متكرر يكاد يكون القاعدة لا الاستثناء.
التجربة اليمنية القريبة تؤكد أن كل صفقة تبادل تُنجز، تقابلها موجة اختطافات جديدة، وكأن المليشيات تعيد تعبئة مخزونها من الرهائن السياسية، لتعويض ما فقدته على طاولة التفاوض.
لا تتوقف هذه الحملات عند حدود الخصوم العسكريين، بل تمتد إلى المدنيين، والصحفيين، والنشطاء، والتربويين، وحتى موظفي المنظمات الدولية، في رسالة واضحة مفادها أن المجتمع بأسره يعيش تحت منطق الاشتباه الدائم، وأن الحرية ليست حقاً، بل امتيازاً تمنحه المليشيا أو تسحبه وفق حساباتها.
بهذا السلوك، لم يعد الاختطاف إجراءً أمنياً عابراً، بل أصبح جزءاً بنيوياً من منظومة الحكم الحوثية، وأحد أعمدة إدارتها للصراع.
فالسجون لم تعد أماكن احتجاز فحسب، بل تحولت إلى بنك أوراق ضغط مفتوح، يُستخدم لابتزاز الخصوم، ومخاطبة الوسطاء، وفرض الحضور على الطاولات السياسية، في وقت يُفرغ فيه القانون من معناه، وتُختزل العدالة في قرار أمني صادر من مليشيا لا تعترف بالدولة ولا بمؤسساتها.
ورغم أن أي إفراج عن مختطفين يظل مكسباً إنسانياً لا يجوز التقليل من قيمته، فإن المعضلة الأخلاقية تكمن في أن هذا المكسب يُستثمر سياسياً من قبل الجلاد نفسه، الذي يسارع بعد كل اتفاق إلى إعادة إنتاج الجريمة ذاتها.
هنا لا يعود السؤال عن جدوى التبادل بقدر ما يصبح عن ثمنه الخفي، وعن عدد الأبرياء الذين سيدفعون لاحقاً ثمن تلك الانفراجات المؤقتة.
في المقابل، تجد الحكومة الشرعية نفسها محاصرة بمعادلة قاسية، إذ لا تستطيع تجاهل معاناة الأسرى وذويهم، ولا تملك في الوقت ذاته أدوات ضغط موازية تجبر الحوثيين على الالتزام الدائم.
غير أن هذا الواقع لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته، ولا يبرر استمرار التعامل مع ميليشيا مسلحة كطرف سياسي طبيعي، فيما هي تمارس الاختطاف التعسفي والإخفاء القسري كسياسة ممنهجة لا كحوادث فردية.
الأخطر من كل ذلك هو خطر التطبيع مع الجريمة، حين يصبح الاختطاف ورقة تفاوض معترفاً بها ضمنياً، ويُكافأ من يمارسها بمقعد على طاولة الوساطة.
عند هذه النقطة، لا يعود ملف الأسرى طريقاً للسلام، بل يتحول إلى آلية لإطالة أمد الصراع، وترسيخ منطق الإفلات من العقاب، وإرسال رسالة سلبية لكل اليمنيين مفادها أن القوة لا القانون هي من تصنع الواقع.
إن السلام الحقيقي في اليمن لا يمكن أن يُبنى على صفقات موسمية تُدار بالسجون، ولا على إنجازات إنسانية معزولة عن جذورها السياسية والقانونية. فالمطلوب ليس فقط الإفراج عن المختطفين، بل إنهاء سياسة الاختطاف ذاتها، وتجريم استخدامها كأداة صراع، وربط أي مسار تفاوضي بضمانات صارمة تمنع تكرار الجريمة. وحتى يتحقق ذلك، ستظل كل صفقة تبادل مجرد هدنة قصيرة في حرب طويلة، تُدار فيها المعاناة كعملة، والإنسان كورقة ضغط، وتُختبر فيها أخلاق السياسة على حساب كرامة اليمنيين.