الشرعية بين التمرد والاعتراف الدولي.. اليمن نموذجاً
من خلال التجارب العالمية والعربية تبرز أهمية الاعتراف الدولي كأداة محورية تحدد قدرة السلطات على ممارسة الحكم وإضفاء الشرعية عليها، ففي حين يمكن لسلطات الأمر الواقع أو حركات التحرر وبالمقابل التمردات المسلحة أن تسيطر على مناطق واسعة أو تفرض إرادتها وإدارتها بالقوة، يظل الاعتراف الدولي هو أقوى الضمانات التي تمنح هذه السلطات شرعيتها وإمكانية التفاعل مع النظام الدولي وإضفاء غطاء سياسي وقانوني لها.
لنتأمل الواقع من كردستان العراق إلى صومالي لاند، وبين انتقالي ليبيا وانتقالي اليمن، ومن قسد سوريا إلى بوليساريو المغرب، ومن سوريا الجديدة -سوريا الشرع- إلى حالة التمرد الحوثي، ومن غيرها من التجارب المتناقضة في مناطق النزاع العربية، يتضح أن الشرعية لا تُبنى على السيطرة وحدها، بل تتشكل من التوازن بين الأمر الواقع والاعتراف الدولي، حيث يعزز الاعتراف الدولي النفوذ ويحد من العزلة لكن مع ضرورة الحاجة إلى توفر الأمن والخدمات المختلفة للسلطة على الأرض.
وعموما تكتسب السلطات شرعيتها عبر العديد من الآليات وتتمثل بالنسبة لعموم الأنظمة الجمهورية والديمقراطية عبر الانتخابات والاستفتاءات الشعبية -وهو الوضع الطبيعي والقانوني في مختلف دول العالم-، أو التفويض في الظروف الاستثنائية كحالة الحروب أو الصراعات أو غياب البنية التحتية لإجراء الانتخابات، كما حصل مع الرئيس السوري الحالي، أحمد الشرع، أو فرض السيطرة والأمر الواقع مع احترام إطار قانوني ودستوري واضح، وضمان الأمن والخدمات وقبول الشعب، بحيث لا تتحول السيطرة إلى تمرد، وهو ما يمكننا إسقاطه على بعض الحالات في ليبيا والصومال واليمن، ولتعزيز كل ما سبق أو نزعه يأتي الاعتراف الدولي كعامل حاسم ومهم لشرعية تلك السلطات من عدمها.
بعيدا عن ذلك وفي نظرة عجب وعتب، ومما لا بد التأمل فيه مثلا في حالة كردستان العراق رغم وحدة اللغة والثقافة والعرق للاقليم الكردي إلا أنه في نضاله لم يتبرأ من عراقه الذي اختتم كفاحه كأبرز المكونات الفاعلة في إطار دولته، وهو الدرس الذي يحتاج البعض الاستفادة منه، وأيضا قوات سوريا الديمقراطية -قسد- لم تتخلى عن سوريّتها، ودولة جنوب السودان لم تعلن نفسها بعد الاستفتاء بمسمى بعيد عن السودان، وصومالي لاند -جمهورية أرض الصومال- التي لم تنفصل حكومته عن صوماليتها رغم انفصالها الجغرافي وعدم الاعتراف الدولي، وقد ظل اسم الصحراء الغربية التي حاول ويحاول البوليساريو الانفصال بها قرينةً بالمغرب إلى أن اعترف مجلس الأمن بحق الحكم الذاتي لها ولكن في إطار الدولة المغربية..
ولنذهب بعيداً إلى مسمى الكوريتين - كوريا الشمالية والجنوبية- رغم انفصالهما، والألمانيتين - ألمانيا الشرقية والغربية- قبل وبعد اتحادهما، لم يفكروا جميعا أو يسعوا إلى التمرد على الامتداد الذي يجمعهم بالسعي إلى مسميات مفتعلة نكرانا للأصل والجذور عبر فرض القوة أو تبديل الهوية..
بينما هنا استدعت العنصرية وقادت البعض -إلى ما هو أبعد من الحق وعدالة القضية والمظلومية- وهو التبرؤ من يمنيّتهم تحت مسمى - الجنوب العربي- رغم أن القضية التي يتمسكون بها كانت ضمن اليمن التاريخي، يجتمع شعبه على كل القواسم المشتركة؛ اللغة والعرق والدين والهوية والثقافة والامتداد التاريخي والجغرافي، منذ البعيد إلى عهد الاحتلال البريطاني إلى جمهورية اليمن الديمقراطية إلى الجمهورية اليمنية إلى الآن، وهو الحال الذي نتوقع استمراره بالنسبة للمجلس الانتقالي في اليمن اذا ما استمر في تمرده الأخير، وبخاصة بعد موقف السعودية من التطورات في حضرموت والمهرة وضرورة انسحاب الانتقالي منهما والالتفاف الإقليمي والدولي حول الموقف السعودي.
يقاتل باسم الشرعية ضد الشرعية، ليصنع شرعية بديلة في الوقت المناسب؛ بهذه الفقرة يمكننا اختصار الحال مع الحوثيين شمالا وبعض تصرفات الانتقالي جنوبا، ففي الشمال وبالرغم من الاعتراف بقضيتهم وضرورة إيجاد حل عادل لها، وأيضا إدماجهم كمكون فاعل في مؤتمر الحوار، وفي حكومة التوافق وفي العملية السياسية الانتقالية، إلا أنهم تحركوا من داخل الدولة اليمنية، إلى لحظة مناسبة وانقلبوا عليها ليفرضوا سلطة أمر واقع لا يزال المجتمع الدولي يرفض الاعتراف به بل ويحاربه حتى الآن ويضعه تحت تصنيف الإرهاب وعقوباته، رغم الاستغلال المزدوج من هنا أو هناك لاستمراره أو ابتزاز الجوار بوجوده..
كان ذلك هو حال الحوثيين بعد العام 2012 حتى الانقلاب في 2014، وها هو حاليا وجنوبا وللأسف الشديد يتكرر المشهد ويتشابه في بعض سياقاته وممارساته -وما لا نتمناه- في نتائجه، رغم البوادر والمعطيات التي قد تجعل ذلك واقعا بالنسبة لمكون المجلس الانتقالي، عبر ما هو حاصل الآن من توتر عقب سيطرته على محافظتي حضرموت والمهرة بالقوة العسكرية وعدم الانسحاب منهما، رغم الموقف العربي والدولي الداعم لوحدة اليمن - باعتباره من أهم المنجزات في القرن الماضي- والداعي إلى انسحاب قوات الانتقالي من المحافظتين..
ذلك بالرغم أن الانتقالي جزء من مجلس القيادة الرئاسي وممثل في الحكومة ويتحرك تحت غطاء “محاربة الحوثي” و“استعادة الدولة”، وبذلك يكتسب الغطاء القانوني من الشرعية، بل ويتموضع داخلها، ولكنه -في حالات مختلفة- مع اعتراف الجميع بقضيته وضرورة حلها في إطار زمني وقانوني يجب المرور بمراحله، لكنه قد لا يُسقط الشرعية بشكل كلي، إنما يُبقيها شكلًا ويقيّدها فعلًا للوصول إلى الهدف المتمثل في إقامة دولته الجنوبية -كما يقول- في ظل واقع هو بأشد الحاجة فيه إلى التعقل والتقليل من المغامرات غير المحسوبة للوصول إلى هدفه.
ختاماً، يجب النظر إلى عواقب الأمور بعين الحكمة والعقل، والتوازن بين تكريس الأمر الواقع مع التحديات الدولية، وإدراك أن أي مسار يتجاوز الإطار الوطني والقانوني ويضعف فرص الاستقرار، قد يعيد إنتاج الأزمات بدل معالجتها، مهما كانت عدالة المطالب أو وجاهة القضايا.
*مدير تحرير مجلة جرهم